الرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون متوسطا رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك ووزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع عام 1999
الرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون متوسطا رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك ووزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع عام 1999

نيرڤانا محمود/

توجه الرئيس أنور السادات في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1977 إلى سوريا ليلتقي بالرئيس السوري حافظ الأسد، وحاول أن يقنع الأسد بالموافقة على زيارة للقدس، والتفاوض مع إسرائيل لاستعاده الجولان السورية وكل الأراضي المحتلة.

رفض الأسد. ذهب السادات وحيدا إلى القدس، وسط سخط ولعنات العرب ثم وقع اتفاقية كامب ديفيد في 26 آذار/مارس 1979، واستطاع أن يستعيد سيناء كاملة من إسرائيل.

أربعة عقود مضت على توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. وما زالت اتفاقية كامب ديفيد صامدة رغم كل التحديات. أما الجولان السوري فما زال تحت الاحتلال الإسرائيلي، بل اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخرا بسيادة إسرائيل رسميا عليه.

من السهل أن نلوم أعداءنا على استغلالهم لفشلنا، ولكن من الصعب الاعتراف أننا أعطينا لهم الفرصة للإمعان في الاستغلال

​​​كتب الكاتب الإسرائيلي برادلي بورستون، قد بضعة أعوام، عمن يخشون السلام، وعمن يكرهونه. هذا التوصيف الدقيق ينطبق، ليس فقط على كثير من الإسرائيليين والفلسطينيين، بل أيضا على الكثير في عالمنا العربي.

الرئيس السادات كان استثناء نادرا. فالزعيم المصري لم يخش السلام ولم يكرهه، على عكس الرئيس السوري حافظ الأسد.

لم يكن الأسد مستعدا أن يدفع فاتورة الحرب مع إسرائيل (بعد حرب 1973)، ولكنه أيضا لم يكن مستعدا أن يدفع فاتورة السلام.

قد لا يعلم البعض أن النظام السوري قد تراجع عن رفضه التام لفكره المفاوضات، بعد وفاه السادات.

فقد حضرت سوريا مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991، ثم دخلت في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل في عام 2000. تتابعت محاولات الوساطة بين سوريا وإسرائيل أيضا في أعوام 2007، 2008، 2010، ولكن باءت كل هذه المحاولات بالفشل.

في كل مرة كان هناك أسباب تقنية لفشل المفاوضات، كالاختلاف على خط الحدود وغيرها من التفاصيل.

ولكن فشل المفاوضات كان له أيضا أسباب أعمق. فقد أيقن الأسد أن توقيع أي اتفاقية سلام مع إسرائيل قد يهدد نظامه الهش الذي أسكت شعبه واستمد شرعيته من شعارات المقاومة والممانعة ورفض التطبيع.

اختزل الأسد سوريا الوطن في نظامه وخشي على حكمه من تبعات خطوة جريئة كتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل.

كان الأسد أيضا يعاني من "عقده السادات". فنجاح السادات في إعادة سيناء بالرغم من الرفض العربي، وصمود اتفاقية السلام بعد وفاته ألقت بظلالها على تفكير النظام السوري. في كل محاولة للوساطة بين الطرف السوري والإسرائيلي كان الأسد يرفع من سقف طلباته، بهدف الحصول على مكاسب أكثر مما تمكن السادات الحصول عليه في كامب ديفيد، وذلك لكي يصور نظامه بأنه أكثر وطنية وعروبة.

ثم جاءت الحرب الأهلية في سوريا، فسمح الأسد بدخول لاعبين جدد للساحة السورية وعلى رأسهم النظام الإيراني. مما أعطي إسرائيل ذريعة جديدة لتثبيت سيادتها على الجولان.

وللأسف، التغلغل الإيراني في المجتمع السوري يزداد يوما بعد يوم. مما سيؤدي حتما إلى المزيد من المواجهات وحتى الحروب مع إسرائيل. رحلة الجولان من السيادة السورية إلى "السيادة" الإسرائيلية تعكس العقلية الإسرائيلية في اغتنام الفرص، وعقلية البعض في العالم العربي في إضاعة الفرص.

من السهل أن نلوم أعداءنا على استغلالهم لفشلنا، ولكن من الصعب الاعتراف أننا أعطينا لهم الفرصة للإمعان في الاستغلال.

على مدى أربعة عقود، كان تعامل نظام الأسد مع قضية بلاده جريمة ضد المنطق. فقد رفض التفاوض حين سنحت الفرصة، ثم دخل المفاوضات بدون أي نية لإنجاحها، ثم تحالف مع من يتاجرون بقضيته لخدمة أجندتهم وأيديولوجيتهم الخاصة.

"ضياع الجولان" جرس إنذار للنظام السوري بأن يعيد حساباته ويقطع علاقاته بمن ساهموا في مأساة الجولان.

​​الدرس المستفاد من تجربه السادات ليس "الاستسلام لإسرائيل" كما يدعي محور الممانعة، ولكن الدرس الحقيقي هو القرار المناسب في الوقت المناسب.

الآن وبعد "ضياع الجولان"، ألم يحن الأوان للنظام السوري أن يراجع خيارته الاستراتيجية في ضوء المستجدات الحالية؟

لو كان السادات ما زال على قيد الحياة، وزار دمشق، فلن يطلب من الأسد أن يزور القدس، ولكن سيطلب منه أن يخلع عباءة الملالي التي لم تجلب لسوريا إلا الخوف والكره والدمار وضياع الأرض والعرض.

"ضياع الجولان" جرس إنذار للنظام السوري بأن يعيد حساباته ويقطع علاقاته بمن ساهموا في مأساة الجولان.

اقرأ للكاتبة أيضا: عن 'هيومن رايتس ووتش' والنفاق والأوسكار

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.