الدخان يتصاعد من معمل لإنتاج الكهرباء شمالي بيروت
الدخان يتصاعد من معمل لإنتاج الكهرباء شمالي بيروت

حسين عبدالحسين/

في تصريحات لا سابق لها، أظهر بعض مسؤولي لبنان جدية في تعاملهم مع أزمة اقتصادية ومالية حتمية ينتظرها لبنان. تخلى وزير الخارجية جبران باسيل عن شعبويته وتحريضه المتواصل لقاعدة المؤيدين، وأبدى تأييدا لرئيس الحكومة سعد الحريري لناحية خفض النفقات وتطبيق التقشف الحكومي، بما في ذلك تخفيض رواتب القطاع العام، في محاولة من الرجلين لإقناع المجتمع الدولي أنهما جادّان في تطبيق الإصلاحات المطلوبة لحصول بيروت على الأموال الموعودة في مؤتمر سيدر.

وتعد وزارة المالية اللبنانية، على موقعها الإلكتروني، بخفض النفقات البالغة حوالي 16 مليار دولار سنويا، بواقع 20 في المئة، وهو ما ينسف العجز السنوي كليا، فتتساوى واردات حكومة لبنان مع نفقاتها.

إن جدية مسؤولي لبنان في التقشف لا تكفي لإخراج بلادهم من الهاوية المنتظرة، بل تحتاج البلاد إلى فلسفة جديدة

​​لكن المشكلة تكمن في أن قدرة الحكومة محدودة على خفض الانفاق، إذ أن 35 في المئة من مدفوعاتها السنوية، أي 5 ونصف مليار دولار، مخصصة لخدمة الدين العام، وهو من الأعلى في العالم مقارنة بالناتج المحلي المتواضع في لبنان، والذي لا يتعدى 52 مليارا. وللمقارنة، تبلغ نفقات فيسبوك السنوية 15 مليار دولار، فيما تبلغ نفقات شركة آبل 195 مليارا.

وتسعى بيروت إلى خصخصة قطاع إنتاج وتوزيع الكهرباء، وهو قطاع شبه حكومي يغرق في الفساد، ويكبد الخزينة مليار ونصف سنويا، أي ما يوازي 10 في المئة من إجمالي الانفاق اللبناني السنوي. وكان البنك الدولي حاول قبل سنوات الإشراف على خصخصة هذا القطاع، إلا أن مافيات مولدات الكهرباء الخاصة والمحسوبية في "شركة كهرباء لبنان" حملت المسؤولين اللبنانيين على رفض المساعدة الدولية، وهو ما أضاف إلى الدين اللبناني حوالي 15 مليار دولار، منذ تاريخه.

لكن مشكلة لبنان ليست في فساد دولته، التي تحتل المرتبة 138 من 180 عالميا، حسب مؤسسة "الشفافية الدولية"، ولا في إنفاقه الذي يفوق وارداته، فحسب، بل إن مشكلة لبنان تكمن في سياسته الخارجية وفلسفة وجوده: هل لبنان هو دولة تقدم مصالح شعبها على مصالح شعوب العالم؟ أم أن لبنان من المظلومين والمستضعفين والممانعين في العالم ممن يتصدون لقوى الإمبريالية والاستكبار؟

هذا السؤال لا يطال لبنان وحده، بل هو يطال أكبر دول العالم، مثل الولايات المتحدة، التي غالبا ما تحتار في سياستها الدولية: هل تختار أميركا مصالحها، أم تعلي مبادئها ولو على حساب المصالح؟ في الغالب، اختارت أميركا، كما دول كثيرة أخرى، مصالحها أولا. أما المبادئ، فاختارتها الحكومات في الحالات التي تطابقت فيها مصالحها مع مبادئها، أو في الحالات التي لم يكن لها مصالح، فأيدت المبادئ، غالبا من موقف المتفرج.

في تاريخه الحديث، منذ تكوينه قبل 99 عاما، سنحت أمام لبنان فرصا متكررة للاختيار بين الانعزال عن الإقليم والسعي وراء مصالحه حصريا، وهي السياسة التي تبناها الرئيسان الراحلان فؤاد شهاب وشارل حلو وشهدت زمن لبنان الذهبي؛ أو الانخراط في واحد من المحاور الإقليمية والدولية المتعددة المتنافسة، والتي كان آخرها المحور الذي تقوده إيران والمعروف بـ"محور الممانعة"، وهي السياسة التي اختارها ثلاثة رؤساء في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية (1990): الياس الهرواي وإميل لحود وميشال عون.

في زمن الهراوي، اعتقد رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري أنه يمكن مزاوجة مصلحة لبنان وتحالفاته الإقليمية، فشهد لبنان نموا اقتصاديا كبيرا، ممولا بديون أكثر من العادة بسبب استمرار العمليات الحربية فيه أثناء عملية إعادة إعماره، وعندما انتفض الحريري وحاول إخراج لبنان من المحاور الإقليمية المتناحرة، تم اغتياله.

وفي الزمن الذي سيطر فيه محور إيران، بقيادة "حزب الله" على لبنان، حاول الرئيس السابق ميشال سليمان تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية بمناورات سياسية، مثل "إعلان بعبدا"، وهو إعلان لم يؤد إلى عزل لبنان، بل إلى عزل سليمان نفسه.

إن جدية مسؤولي لبنان في التقشف لا تكفي لإخراج بلادهم من الهاوية المنتظرة، بل تحتاج البلاد إلى فلسفة جديدة، تقضي بالتوصل لقناعة مفادها أن انخراط لبنان في محاور مواجهة الإمبريالية هو انخراط مكلف بالنسبة لبلاد متواضعة الإمكانيات، وأن مصلحة اللبنانيين تتطلب أنانيتهم، واقتناعهم أن لفلسطين أهلها ولسوريا شؤونها، وأن مصلحة لبنان هي في حياده، وامتثاله للقانون الدولي، بما في ذلك توقيع سلام مع إسرائيل، على غرار مصر والأردن وتركيا، فالنمو الاقتصادي مستحيل من دون استقرار أكيد وسلام لا مواربة فيه.

انخراط لبنان في محاور مواجهة الإمبريالية هو انخراط مكلف بالنسبة لبلاد متواضعة الإمكانيات

​​وفي سياق التخلي عن الشعبوية ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين، يمكن للبنان استغلال مصائب هؤلاء، فلبنان يتمتع بأكبر نسبة من خريجي الجامعات والموارد البشرية، ويمكن استغلال العمالة الرخيصة التي يقدمها اللاجئون، فيتحول لبنان إلى قوة اقتصادية إقليمية ذات صادرات صناعية وخدماتية. وعمل اللاجئين يخفّض من تكلفة الإنتاج، ويقلّص التوتر السياسي والاجتماعي الذي يولده فقرهم، ويمنح دولة لبنان عائدات ضريبية على دخلهم.

أما اللبنانيون ممن يرون في السلام مع إسرائيل مذلّة ومهانة، ويرون في العلاقات الجيدة مع عواصم الغرب، وفي طليعتها واشنطن، خيانة للعرب وقضيتهم، فما عليهم إلا أن يقرروا أيهما يريدون: مقارعة الاستكبار العالمي بلا عمل ولا مدخول ولا آفاق مالية، أو الخروج من سياسة المحاور والانشغال بالعمل، وتحقيق الطموح، والعيش حياة كريمة ورغيدة.

اقرأ للكاتب أيضا: الخليج بين ضفتيه

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.