بينما انشغل المصريون والمتابعون للشأن المصري بنتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية، استوقفني تعليق رئيس مجلس النواب الدكتور علي عبد العال، أثناء مناقشة البرلمان المصري لهذه التعديلات، حين قال: "إن مدنية الدولة تعني أننا لسنا دولة علمانية ولا عسكرية ولا دينية، فالدولة تقوم على المواطنة واحترام الدستور والقانون".
لخص عبد العال، من دون قصد، مشكلة الهوية المصرية والصراع الأزلي في مصر لتحديد معالمها. هويتنا في مصر هوية "النص نص".
فبينما ترفض غالبية الشعب المصري جماعات الإسلام السياسي كالإخوان المسلمين، تعتبر مصطلح العلمانية (فصل الدين عن الدولة) كفر وإنكار لمكانة الدين في قلوبهم.
يبحث المصريون عن فتاوى عن كل شيء في حياتهم، ولكنهم أيضا لا يريدون لرجال الدين أن يحكمونهم.
يعشقون جيشهم بانضباطه ووطنيته، ولكنهم يتوجسون حين يدخل قادة هذا الجيش معترك السياسية.
ربما يكون هدف عبد العال أن يصور مصر كبلد وسطي. ولكن الواقع المصري بعيد تماما عن الوسطية، بل إنه واقع ضبابي مليء بالمتناقضات.
فالدولة المصرية، "غير الدينية"، ما زالت تحتاج موافقة الأزهر على مبدأ المساواة بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب. وتحتاج الأزهر لإصدار قانون جديد للأحوال الشخصية. كما تحتاج فتاوى رجال الدين، حتى في البديهيات كالاحتفال بعيد شم النسيم وتهنئة الأقباط بأعيادهم.
والدولة "غير العسكرية" لم تجد إلا الفريق كامل الوزير لينقذ وزارة النقل بعد حادثة القطار المروعة. ولم تجد إلا سواعد القوات المسلحة لبناء مشروعاتها الكبرى، مثل محور روض الفرج وأنفاق قناة السويس، وحتى مشروع إنتاج السيارات الكهربائية.
والدولة "غير العلمانية" تفتخر بقوتها الناعمة في العالم العربي، من نجوم الفن والغناء والتمثيل، بينما يحرم رجال الدين معظم هذه الفنون. دولة يتذكر شعبها "الزمن الجميل" بنجومه كسامية جمال وتحية كاريوكا ثم ينتقد "العري" ويبرر التحرش "بالسافرات".
يتابع الملايين من شعبها راقصة كفيفي عبده على حسابها على موقع انستغرام، ثم يلعنها البعض منهم، أو يدعون لها بالهداية!
تعريف مدنية الدولة بهذه "اللاءات الثلاث"، يجعل الدولة المصرية غير واضحة المعالم، معرضه دائمة لتناقضات اجتماعية وسياسية عديدة.
مهمة أي دستور هي إدارة تناقضات المجتمع، مع الحرص على حماية حريات الأفراد ومدنية الدولة.
فدستور أي دولة مدنية يجب أن يحتوي على ضوابط تحمي الدولة ومواطنيها من أي تعديات على مدنيتها، وتحمي المجتمع من غلاة الدين وتسييس الجيش، وأيضا تحمي حرية الفرد من قهر الجماعة وثغرات القانون، ووضع ضوابط تفرق بين الجريمة والذنب والحقوق الخاصة والعامة.
كنت أتوقع أن يواجه الرئيس المصري هذه التناقضات قبل الإقدام على تمديد فترة حكمه، لأنها ببساطة، تشكل تحديا له قبل أي مصري آخر.
أعلن الرئيس المصري مرارا وتكرارا أن هدفه الأساسي هو بناء دولة مصرية قوية. ولكن بناء دولة قوية والاستمرار في حكمها لا يمكن تحقيقه في ظل ضبابية الهوية المصرية، إذ أن هذه الضبابية تضعف الشعب وتشتت قوته وتسمح لأعدائه بالتغلغل في مفاصل المجتمع.
فبالرغم من كل سلطاته، ما زال الرئيس المصري يحتاج الأزهر لتطوير الخطاب الديني، فنحن في زمن يتنفس المصريون الصعداء حين يفتي لهم الشيوخ بأن شم النسيم حلال وتهنئة المسيحيين ممكنة.
معظم أنصار السيسي يؤيدون المشاريع التنموية كالعاصمة الإدارية الجديدة، لأنهم يحلمون بماضيهم الجميل بمدنه الأنيقة والنظيفة.
ولكن المدن ليست فقط ڤيلات جميلة وطرقات واسعة ومرافق جيدة. من سيحدد نجاح العاصمة الجديدة هم سكانها. عاجلا أو أجلا سيجد الرئيس المصري نفسه وجها لوجه مع معضلة الهوية، خصوصا في تعامله مع القطاع العام المصري الذي تربي على ثلاثية: "إن شاء الله، بكرة، ومعليش"؛ وهي ثلاثة تنبع من هوية اتكالية على الدين وتعتبر الانضباط أسلوبا خاصا بالعسكريين فقط وليس المدنيين، وتحكم على الآخرين من خلال حجابهم وزيهم وذقونهم وليس أداءهم وإنتاجيتهم.
سيكون أمام الرئيس السيسي خياران: إما الضغط على هذه الفئة لتحسين أدائها، وبذلك يخاطر بهبوط شعبيته في أوساط هذا القطاع الكبير من الشعب المصري الذي شارك معظمه بإيجابية في الانتخابات الرئاسية وتعديل الدستور؛ أو يترك هذه الفئة على أحوالهم وعاداتها المزمنة ويخاطر بتحويل عاصمته الجديدة إلى نموذج آخر من فشل القاهرة.
لا توجد دولة قوية ناجحة بهوية غير واضحة المعالم. يتباكى البعض على الدستور المصري وضياع حلم ثورة يناير، ويتناسون أن لب الداء هو الهوية المصرية غير الواضحة المعالم، والتي شجعها حسني مبارك فأفشلت حكمه، وحاول أن يغيرها محمد مرسي فلفظه الشعب المصري. والآن تشكل تحديا كبيرا للسيسي ـ تحديا أكبر من رفض النخب له ولعنات الإخوان عليه. قد توجد دولة قوية بلا ديمقراطية ولكن لن تنهض دولة بهوية "نص نص".
اقرأ للكاتبة أيضا: الأسد وفاتورة الحرب والسلم
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).