سباق الألوان في الجيزة
سباق الألوان في الجيزة

نيرڤانا محمود/

بينما انشغل المصريون والمتابعون للشأن المصري بنتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية، استوقفني تعليق رئيس مجلس النواب الدكتور علي عبد العال، أثناء مناقشة البرلمان المصري لهذه التعديلات، حين قال: "إن مدنية الدولة تعني أننا لسنا دولة علمانية ولا عسكرية ولا دينية، فالدولة تقوم على المواطنة واحترام الدستور والقانون".

لخص عبد العال، من دون قصد، مشكلة الهوية المصرية والصراع الأزلي في مصر لتحديد معالمها. هويتنا في مصر هوية "النص نص".

فبينما ترفض غالبية الشعب المصري جماعات الإسلام السياسي كالإخوان المسلمين، تعتبر مصطلح العلمانية (فصل الدين عن الدولة) كفر وإنكار لمكانة الدين في قلوبهم.

لا توجد دولة قوية ناجحة بهوية غير واضحة المعالم

​​يبحث المصريون عن فتاوى عن كل شيء في حياتهم، ولكنهم أيضا لا يريدون لرجال الدين أن يحكمونهم.

يعشقون جيشهم بانضباطه ووطنيته، ولكنهم يتوجسون حين يدخل قادة هذا الجيش معترك السياسية.

ربما يكون هدف عبد العال أن يصور مصر كبلد وسطي. ولكن الواقع المصري بعيد تماما عن الوسطية، بل إنه واقع ضبابي مليء بالمتناقضات.

فالدولة المصرية، "غير الدينية"، ما زالت تحتاج موافقة الأزهر على مبدأ المساواة بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب. وتحتاج الأزهر لإصدار قانون جديد للأحوال الشخصية. كما تحتاج فتاوى رجال الدين، حتى في البديهيات كالاحتفال بعيد شم النسيم وتهنئة الأقباط بأعيادهم.

والدولة "غير العسكرية" لم تجد إلا الفريق كامل الوزير لينقذ وزارة النقل بعد حادثة القطار المروعة. ولم تجد إلا سواعد القوات المسلحة لبناء مشروعاتها الكبرى، مثل محور روض الفرج وأنفاق قناة السويس، وحتى مشروع إنتاج السيارات الكهربائية.

والدولة "غير العلمانية" تفتخر بقوتها الناعمة في العالم العربي، من نجوم الفن والغناء والتمثيل، بينما يحرم رجال الدين معظم هذه الفنون. دولة يتذكر شعبها "الزمن الجميل" بنجومه كسامية جمال وتحية كاريوكا ثم ينتقد "العري" ويبرر التحرش "بالسافرات".

ما زال الرئيس المصري يحتاج الأزهر لتطوير الخطاب الديني

​​يتابع الملايين من شعبها راقصة كفيفي عبده على حسابها على موقع انستغرام، ثم يلعنها البعض منهم، أو يدعون لها بالهداية!

تعريف مدنية الدولة بهذه "اللاءات الثلاث"، يجعل الدولة المصرية غير واضحة المعالم، معرضه دائمة لتناقضات اجتماعية وسياسية عديدة.

مهمة أي دستور هي إدارة تناقضات المجتمع، مع الحرص على حماية حريات الأفراد ومدنية الدولة.

فدستور أي دولة مدنية يجب أن يحتوي على ضوابط تحمي الدولة ومواطنيها من أي تعديات على مدنيتها، وتحمي المجتمع من غلاة الدين وتسييس الجيش، وأيضا تحمي حرية الفرد من قهر الجماعة وثغرات القانون، ووضع ضوابط تفرق بين الجريمة والذنب والحقوق الخاصة والعامة.

كنت أتوقع أن يواجه الرئيس المصري هذه التناقضات قبل الإقدام على تمديد فترة حكمه، لأنها ببساطة، تشكل تحديا له قبل أي مصري آخر.

أعلن الرئيس المصري مرارا وتكرارا أن هدفه الأساسي هو بناء دولة مصرية قوية. ولكن بناء دولة قوية والاستمرار في حكمها لا يمكن تحقيقه في ظل ضبابية الهوية المصرية، إذ أن هذه الضبابية تضعف الشعب وتشتت قوته وتسمح لأعدائه بالتغلغل في مفاصل المجتمع.

فبالرغم من كل سلطاته، ما زال الرئيس المصري يحتاج الأزهر لتطوير الخطاب الديني، فنحن في زمن يتنفس المصريون الصعداء حين يفتي لهم الشيوخ بأن شم النسيم حلال وتهنئة المسيحيين ممكنة.

معظم أنصار السيسي يؤيدون المشاريع التنموية كالعاصمة الإدارية الجديدة، لأنهم يحلمون بماضيهم الجميل بمدنه الأنيقة والنظيفة.

ولكن المدن ليست فقط ڤيلات جميلة وطرقات واسعة ومرافق جيدة. من سيحدد نجاح العاصمة الجديدة هم سكانها. عاجلا أو أجلا سيجد الرئيس المصري نفسه وجها لوجه مع معضلة الهوية، خصوصا في تعامله مع القطاع العام المصري الذي تربي على ثلاثية: "إن شاء الله، بكرة، ومعليش"؛ وهي ثلاثة تنبع من هوية اتكالية على الدين وتعتبر الانضباط أسلوبا خاصا بالعسكريين فقط وليس المدنيين، وتحكم على الآخرين من خلال حجابهم وزيهم وذقونهم وليس أداءهم وإنتاجيتهم.

نحن في زمن يتنفس المصريون الصعداء حين يفتي لهم الشيوخ بأن شم النسيم حلال وتهنئة المسيحيين ممكنة

​​سيكون أمام الرئيس السيسي خياران: إما الضغط على هذه الفئة لتحسين أدائها، وبذلك يخاطر بهبوط شعبيته في أوساط هذا القطاع الكبير من الشعب المصري الذي شارك معظمه بإيجابية في الانتخابات الرئاسية وتعديل الدستور؛ أو يترك هذه الفئة على أحوالهم وعاداتها المزمنة ويخاطر بتحويل عاصمته الجديدة إلى نموذج آخر من فشل القاهرة.

لا توجد دولة قوية ناجحة بهوية غير واضحة المعالم. يتباكى البعض على الدستور المصري وضياع حلم ثورة يناير، ويتناسون أن لب الداء هو الهوية المصرية غير الواضحة المعالم، والتي شجعها حسني مبارك فأفشلت حكمه، وحاول أن يغيرها محمد مرسي فلفظه الشعب المصري. والآن تشكل تحديا كبيرا للسيسي ـ تحديا أكبر من رفض النخب له ولعنات الإخوان عليه. قد توجد دولة قوية بلا ديمقراطية ولكن لن تنهض دولة بهوية "نص نص".

اقرأ للكاتبة أيضا: الأسد وفاتورة الحرب والسلم

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.