بانتظار موعد الإفطار في جامع الأزهر في القاهرة
بانتظار موعد الإفطار في جامع الأزهر في القاهرة

سناء العاجي/

"ناقصات العقل والدين يتغطوا، عشان كامل الدين والعقل مش قادر يمسك نفسه"، كتبت إحداهن في رد جميل وممتع ولاذع على حملات "غطي بنتك، خلي الناس تعرف تصوم".

منذ بضع سنوات، ومع كل مطلع رمضان، يطلق البعض حملات مشابهة تدعو الرجال لتغطية "بناتهم" و"نسائهم" حتى يتمكن هؤلاء من الصيام بدون إغراءات. طبعا، فالخطاب ليس موجها للمعنيات بالأمر، بل لمن يعتبرهم منسقو هذه الحملات أوصياء على النساء. على الرجال أن يتخذوا القرار في حق بناتهم وزوجاتهم وأخواتهم من النساء، لأن هؤلاء قاصرات، مهما بلغ عمرهن، ولأن الرجل يقرر تغطيتهن، وإلا كان "ديوثا".

لا يمكنك أن تطلب من الآخر أن يمارس سلوكا معينا لكي تدخل أنت الجنة

​​العجيب أن ذلك الرجل القادر القوي العاقل المتدين المؤمن الكامل المكتمل، يزعزع صيامه أن يرى شخصا آخر يأكل بحضوره، ويزعزع صيامه أن يرى امرأة ترتدي بنطلونا ضيقا أو تنورة (علما أن نساء كثيرات تعرضن للعنف أو التحرش أو الاغتصاب، دون أن تكون ملابسهن ضيقة ولا قصيرة) ويزعزع صيامه أن يعلن شخص آخر أنه اختار دينا آخر غير الإسلام (أو اختار عدم التدين أساسا) ويزعزع صيامه نقاش عن الموروث الديني أو عن حرية المعتقد.

متى سيقتنع الرجل المسلم أن تدينه خاص به، ويفترض أن يمارسه بكامل إرادته، بعزيمة خاصة به، بقناعات خاصة به. لا يمكنك أن تطلب من الآخر أن يمارس سلوكا معينا لكي تدخل أنت الجنة. لا يمكنك أن تفرض على الآخر الصوم (أو التظاهر به في الشارع العام، كما ناقشنا ذلك في المقال السابق: "الأكل ليس جريمة") كي تدخل أنت الجنة. لا يمكنك أن تفرض على النساء زيا معينا كي تدخل أنت الجنة.

أين إيمانك في كل هذا، إذا كنت تحتاج لضبط سلوك الآخرين والتحكم فيه، حتى يتحقق لك شرط التدين؟

ثم، هذا الهوس بأجساد النساء، لماذا لا نجده بهذه الشدة إلا في المجتمعات التي يعطى فيها للرجل "حق" تغطية أجساد النساء؟ لماذا توجد أعلى نسب التحرش في بلدان كمصر وأفغانستان، ولا نجدها في السويد والدانمارك؟ لماذا يعتبر سكان الدول المتقدمة بأن التحرش جريمة يعاقب عليها القانون وتعاقبها التمثلات المجتمعية؛ بينما في مجتمعاتنا، قد نقوم بكل شيء حتى نحمي الجاني: نسائل ملابس الضحية ووقت خروجها ومكان وجودها وتنفسها وابتسامتها ولون حقيبة يدها.

حسب دراسة أنجزتها الباحثة المصرية رشا محمود حسن تحت عنوان: "غيوم في سماء مصر"، فإن 72،9٪ من النساء المصريات اللواتي يتعرضن للتحرش بشكل يومي، يلبسن الحجاب أو النقاب. نعم! 72،9٪ من ضحايا التحرش الجنسي اليومي... محجبات أو منقبات.

متى سيقتنع الرجل المسلم أن تدينه خاص به

​​وما زال الأخ العزيز مصرا أنه، على زميله وجاره وابن عمه أن "يغطي ابنته عشان الناس تصوم"! ما زال غير مقتنع أن المشكلة ليست في لباس ابنة جاره بل في الهوس المرضي الذي يعاني منه ويعاني منه الآلاف من الرجال حوله (مع الشكر طبعا لكل للرجال المحترمين الذين لا يوجدون ضمن هذه الخانة).

الكارثة الأخرى هي حين تروج بعض النساء لهذا الخطاب الذي يجعل جسدهن جريمة ويجعل غطاءهن شرطا لسلامة صيام وتدين الرجل.

لعلنا نحتاج لعقود كي نقتع بأمر في غاية البساطة: من حق أي كان أن يكون متدينا. من حق أي كان أن يمارس معتقداته الدينية. لكن، ليس من حق ذاك الشخص أن يفرض التدين أو الممارسة الدينية على الآخرين. ليس من حقه أن يشترط على الآخرين سلوكيات معينة حتى يكتمل تدينه... وفوق كل هذا، من واجب الدولة أن تحمي تدين البعض... لكن أيضا عدم تدين البعض الآخر أو، بكل بساطة، اختياراتهم المختلفة. التدين وعدم التدين اختيار شخصي وليس للدولة أن تتدخل فيه سلبا أو إيجابا؛ وإلا، فهي توسع من هوامش التسلط الديني للأفراد!

اقرأ للكاتبة أيضا: افتحوا الحدود رجاء

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.