وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل
وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل

حسن منيمنة/

تغريدات قليلة صادرة عن وزير لبناني، اعتاد إرسال الرسائل الضمنية في كلامه، تعيد إلى الواجهة نزعة استعلائية تكاد أن تكون لازمة في بعض الخطاب السياسي والاجتماعي اللبناني، وتدعو في واقع الحال إلى مراجعة نقدية ذاتية في سياق وطني تمرّس إيجاد المخارج لا الحلول.

جلّ الانتقادات التي نالها الوزير اللبناني المعني انصبت على غرابة ما ورد في تغريداته، إذ ضمّن كلامه حول ضرورة تحبيذ العمالة الوطنية في وجه أية يد عاملة وافدة الإشارة إلى السعودية وفرنسا والولايات المتحدة، فنال بالتالي الاستهزاء لما في هذا الكلام من خلط للحقائق، ومن رائحة استعلاء إزاء دول لا يأتي من مواطنيها البتة من ينافس اللبنانيين في سوق عملهم الداخلي، بل يقصدها اللبنانيون أنفسهم للعمل، كما هو حال السعودية، أو للعمل والتوطّن إن استطاعوا، كما هو حال فرنسا والولايات المتحدة.

الاستعلائية اللبنانية غالبا ما تكون قناعا لطائفية ضمن الوطن

​​الوزير اللبناني لم يقصد بالطبع التشكي من حالة واقعة، بل أراد وحسب، بجسارة مفترضة، التشديد على الأولوية التي يضعها للبنان، حتى إزاء هذه الدول الأقوى والأثرى. يلاحظ هنا أن جسارته المزعومة وقفت عند حد إيران، والتي كان يقتضي إدراجها ضمن الشق المجازي من قائمته، لو أن الغرض هو إظهار العنفوان اللبناني إزاء الدول القوية المؤثرة في لبنان، غير أن مقتضيات التبعية أملت بخلاف ذلك.

المستهدف في كلام معالي الوزير صراحة، رغم التبطين غير الموفّق، هم السوريون والفلسطينيون. وهنا تختلط الأوجه التي تحتاج بالفعل إلى مراجعة واستدراك، بتلك التي تكشف عن مواطن خلل في الحالة الفكرية في لبنان.

فيما يتعلق بالفلسطينيين، فلا شك أن لبنان على مدى عقود أصبحت اليوم من الماضي، قد حمّل ما يتجاوز طاقته من تداعيات تهجير أهل فلسطين، ليس فقط عدديا، من حيث استيعاب لبنان لما يتجاوز نسب كافة الدول العربية، باستثناء الأردن، دون اعتبار لوطأة ذلك على تركيبته الدقيقة، ولكن أيضا سياسيا وأمنيا. ثمن هذا الإهمال، دون حصر للأسباب في الموضوع، كان استفحال الحروب التي تختزل بتسمية "الحرب الأهلية"، والتي استنزفت التجربة اللبنانية وحرمت لبنان ممّا كان مؤهلا لتحقيقه.

على أنه لا يمكن الاختباء حول دور القيادة الفلسطينية في الحروب اللبنانية لتفسير النزعة العدائية التي واجهها ولا يزال الفلسطينيون في لبنان، أو لتبرير أحوالهم المشينة المستمرة فيه. "لا للتوطين" ابتدأت في الخطاب السياسي وانتهت في النص الميثاقي للجمهورية اللبنانية الثانية.

وإذا اقتصر المقصود على المعنى الأصلي، أي لا لإرغام الفلسطينيين على البقاء في لبنان، فهي مقولة لا تستوجب الخلاف. ولكن الأعراف التاريخية كما التزامات لبنان الدولية حول حقوق الإنسان تقضي، خلافا للرهاب والترهيب المتواصلين، فتح باب التوطّن، الطوعي لا التوطين الإلزامي، أمام الأجيال المتعاقبة التي لم تعرف غيره وطنا، من ذرية الذين طردوا مظلومين من فلسطين. هؤلاء هم اليوم عدديا قلّة، ومعظمهم حفظا لكرامته وطلبا للعيش الكريم، يفضّل على الراجح مغادرة لبنان، لا الحصول على جنسيته. غير أن هذه الجنسية هي حق إنساني له، وإن ارتعد البعض للتنبيه إلى هذه الحقيقة.

من الظلم اعتبار كلام هذا الوزير موقف دولة

​​أما بالنسبة للسوريين، فالوزير اللبناني صائب في ما يقصده، وإن جاءت أقواله متخمة بالتناقض والنفاق. فقد كان من غير الجائز منطقيا أن يتحمل لبنان، والذي لا يزيد عدد سكانه عن أربعة ملايين، نزوحا سوريا بلغ وفق بعض التقديرات مليون نازح، أي بنسبة الربع إلى عدد السكان، وهو رقم قياسي تاريخيا على مستوى العالم ككل. ولا شك أن هذا النزوح قد شكّل أعباء اقتصادية واجتماعية وأمنية زادت من الضغوط على البنى اللبنانية الهشّة للتو.

كان من الأجدى للوزير اللبناني أن يعالج مسؤولية فريقه في إهمال النزوح السوري وإساءة إدارته، بل الأنفع كان يكون المراجعة لدوره في تمكين من ساهم بترحيل السوريين من ديارهم باتجاه لبنان وغيره. على أن في ذلك بطبيعة الحال مطالبة الوزير بما يتجاوز صلاحياته ضمن التركيبة السياسية الحالية والتي تنفي عن لبنان السيادة الوطنية. من الظلم اعتبار كلام هذا الوزير موقف دولة، بل لا بد من إدراجه في سياقه الفعلي. فهو هنا يخاطب قاعدته السياسية ساعيا إلى شد العصب على أساس استعلائية تعويضية تطمس واقع غياب القرار الوطني. غير أن سوء طرحه للقضية لا ينفي عنها الأهمية.

وعلى الرغم من بعض الاستفادة القاصرة من هذا التواجد السوري على مستوى استقطاب المعونات الدولية، فإنه لا يمكن التقليل من وطأة التبدل الخطير في حجم المجتمع وطبيعة الدورة الاقتصادية في لبنان المستضيف للحالة السورية النازحة. والإنصاف يوجب الإقرار بأن أداء المجتمع اللبناني في هذا الخصوص كان إيجابيا بالإجمال. دون شك، ثمة حالات متفاوتة تداولها الإعلام حول إساءات واعتداءات، لا يجوز التقليل من أهمية أي منها. غير أن الميل، في بعض الأوساط السورية المعارضة كان إلى الحكم على الحالة اللبنانية وفق معايير تفوق بأضعاف ما تلزمه لنفسها. وهي في ذلك على حق.

نعم، لا بد من الاعتراض على الأداء اللبناني وفق مقاييس مختلفة. ليس لأن اللبنانيين حالة "جينية" مستقلة، وفق قراءة الوزير الخاطئة من حيث المعطيات والسقيمة من حيث الدوافع والتي تريد لهم خصوصية عرقية منتفية، بل لأنه ثمة اختلاف متحقق بالإجمال بينهم وبين توائمهم السوريين والآخرين، في التجربة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. إذ رغم الحرب المنهكة والاحتلالات المتعاقبة، الزائل منها والحاضر، لا يزال هامش الحرية في لبنان، على كافة المستويات الفكرية والاجتماعية والسياسية، أوسع مما هو عليه في معظم محيطه، والمسؤولية صنو الحرية.

كان من الأجدى للوزير اللبناني أن يعالج مسؤولية فريقه في إهمال النزوح السوري وإساءة إدارته

​​الاستعلائية اللبنانية غالبا ما تكون قناعا لطائفية ضمن الوطن، وهذا الوزير اللبناني بالذات قد برع في الكلام المموه، أو قد تكون، كما هو الراجح في كلام الوزير اللبناني هنا، محاولة لتوجيه العصبية من الداخل إلى الخارج، وكأن العصبيات الأهوائية سمة ثابتة في الذهنية اللبنانية لا بد من متنفس لها. ليس هذا الوزير أول من حاول زعم الحقيقة للفرادة اللبنانية، على أنه قد يكون الأول في استدعاء علم الأعراق الحديث، بمطلق الخبط طبعا.

كيف يعالج لبنان معضلة النزوح السوري مسألة جديرة بالاعتبار في إطار المسؤولية العالمية عن المأساة السورية. أما أن توظّف هذه المسألة لإصدار جديد من السقم الاستعلائي اللبناني فدعوة متكررة للمجتمع اللبناني، صاحب الفرادة والخصوصية بالفعل، إلى مساءلة ذاته بشأن السوريين والفلسطينيين، والبنغلادشيين والإثيوبيين، بل بشأن طوائفه داخليا، وتراتبيته بين الدول خارجيا.

اقرأ للكاتب أيضا: العودة إلى الثلاثينيات (1): 'علم الأعراق' مجددا

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.