تظاهرة للمعلمين في المغرب
تظاهرة للمعلمين في المغرب

سناء العاجي/

لأسباب متعددة تتعلق بحياته المهنية والشخصية، سافر شاب مغربي لمدة سنة بين مختلف بلدان الشرق الأقصى: سنغافورة، إندونيسيا، ماليزيا وغيرها.

من جملة ما عاشه هناك من تجارب إنسانية، يحكي الشاب أنه، حين حاول في إحدى تلك البلدان أن يشرح مفهوم المدارس الخصوصية في المغرب، وجد صعوبة كبيرة في إيصال الفكرة. مواطنو بلد مثل سنغافورة مثلا، صَعُب عليهم أن يتقبلوا فكرة أن يدفع مواطن مقابلا ماديا لـ "مستثمر" مقابل تعليم أطفاله.

اختارت حكوماتنا التخلي عن أحد أهم القطاعات الحيوية لبناء بلد: قطاع التعليم، ومعه قطاع الصحة

​​أنتمي، في المغرب، إلى جيل كان فيه التعليم الخصوصي في المستويات الإعدادية والثانوية مرادفا للفشل المدرسي. كان الراسبون الذين يلفظهم التعليم العمومي؛ يسجلهم الأهل في تعليم خصوصي كان معروفا بالتهاون وبتمكين هؤلاء من النجاح دون عناء.

بعد بضع سنوات، أصبح التعليم الخصوصي ملجأ للعديد من الأسر المغربية، بما فيها الأسر الفقيرة والمتوسطة، والتي أصبحت ترى بشكل واضح أن التعليم العمومي، إلا في حالات نادرة، لا يسمح بتوفير مستوى تعليمي جيد لأطفالها.

المستثمرون في القطاع التعليمي الخصوصي أصبحوا يزايدون في المبالغ المطلوبة. لقد نجحوا في استغلال الحاجة تبعا لقاعدة السوق: كلما زاد الطلب، ارتفعت الأسعار. حتى لو كانت السلعة... التعليم! تعليم شعب... بناء شعب!

هكذا، اختارت حكوماتنا المتعاقبة التخلي عن أحد أهم القطاعات الحيوية لبناء بلد: قطاع التعليم، ومعه قطاع الصحة. اليوم، في المغرب، أنت تحتاج للكثير من المال كي تضمن لأبنائك تعليما جيدا، اللهم في بعض الاستثناءات الجميلة التي يقدمها القطاع العمومي بين الفينة والأخرى، والتي في أغلبها تكون نتاجا لمبادرات فردية لبعض الأساتذة أو لبعض الآباء، وليس لنجاح المنظومة في حد ذاتها.

كما أنك، في المغرب، تحتاج الكثير من المال لتتداوى في حالة المرض... ولتتنقل في أمن وأمان، ما دام قطاع النقل العمومي بدوره يعاني من حالة شبه إفلاس.

ثلاث قطاعات حيوية يضطر المواطن لدفع مقابلها من جيبه، لأن الحكومات المتعاقبة لا توفرها له بشكل يحترم آدميته.

هذا دون أن ننسى أن المستوى الضريبي في المغرب يعادل تقريبا نفس المستويات الضريبية في بلد كفرنسا، يستفيد فيه دافع الضرائب من تعليم عمومي مجاني وجيد، ومن قطاع صحي مجاني وجيد ومن منظومة نقل تحترم آدميته... السؤال هنا ليس وجود الضرائب أو إلغاءها. جميعنا نعرف أنه، في كل بلد تقريبا، يدفع المواطنون عددا من الضرائب التي تمكن من تسيير الشؤون العامة... لكن المفروض أيضا أن يتلقى المواطن مقابلا عن تلك الضرائب التي يدفعها: تعليما جيدا لأبنائه، قطاعا صحيا كفؤا، مواصلات عمومية تحترم آدميته، وأمنا في الشوارع والفضاءات العامة.... وهذه، للأسف، كلها أمور شبه منعدمة في المغرب.

لقد تولد لدينا جيل جديد من الهجرة في السنوات الأخيرة، سماه صديق فاعل في المجتمع المدني بإسبانيا: "هجرة التعليم والصحة". عدد كبير من الرجال والنساء المغاربة اليوم ممن ينتمون لما يمكن أن نسميه النخبة، أصبحوا يختارون الهجرة لبلدان ككندا أو إسبانيا، لضمان مستقبل أريح لأبنائهم: تعليم جيد ومجاني، قطاع صحي مجاني ويحترم آدميتهم، أمن في الفضاءات العامة...

رجال ونساء في مناصب مهنية جيدة وبأجور عالية، يفترض أن يشكلوا عجلة التنمية في البلد... فهل نلومهم لاختيار حياة أفضل لهم ولأبنائهم؟ بالنسبة لهم، هناك، في أوروبا أو أميركا، قد يحصلون على أجر أقل مما يحصلون عليه في المغرب أو أكثر قليلا، لكن مستوى عيشهم هناك سيكون أفضل بالتأكيد... هنا، في المغرب، حتى بأجور عالية، فهم يجدون أنفسهم مضطرين لدفع ثلث الأجرة على الأقل في تعليم الأطفال، وجزء لا بأس به في وسائل النقل الخاصة والتطبيب... ومع كل هذا، يسكنهم الإحساس بانعدام الثقة والأمان.

ثلاث قطاعات حيوية يضطر المواطن لدفع مقابلها من جيبه

​​بالفعل، ليست هناك اليوم دراسات ترصد هذه الظواهر، لكن هذه التحولات أصبحت واضحة للمتابع والمراقب الموضوعي. اليوم مثلا، أعداد كبيرة من مهندسي قطاع الإعلام يهاجرون لفرنسا حيث تتوفر لهم عروض مهنية وحياتية أفضل بكثير مما يتاح لهم في المغرب.

كل هذه الكفاءات التي تهاجر (بعد أن تعلم معظمها في المغرب، في زمن كان فيه التعليم العمومي يوفر فرص تطور أفضل) سواء كان ذلك لتحقيق نجاحها المهني الشخصي أو لضمان مستوى عيش أفضل لأطفالهم... أليس في ذلك خسارة كبيرة للوطن؟

هذا طبعا، حين يستشعر الوطن فقدانهم ويفهم أسباب رحيلهم...

اقرأ للكاتبة أيضا: حيوانات منوية عربية مقدسة

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.