نساء إيرانيات يرتدين الزي التقليدي في أصفهان عام 1971
نساء إيرانيات يرتدين الزي التقليدي في أصفهان عام 1971

عمران سلمان/

ذاكرة الإنسان انتقائية، ولهذا السبب فهي قصيرة. لا يعني ذلك أن الإنسان لا يتذكر بالضرورة الأحداث البعيدة، ولكنه يعني أن الإنسان يركز على الأحداث التي تناسب هواه وتخدم وجهة نظره، ويتغافل عن أحداث أخرى ويتجاهلها حتى يطويها النسيان أو يصعب تذكرها.

ظهور الحجاب

كثيرون لا يتذكرون مثلا أن الحجاب في شقيه، السني والشيعي، وفي شكله الحالي على الأقل، لم يكن موجودا قبل الثورة الإيرانية عام 1979، بل إن البعض يصور الأمر على أن الحجاب الحالي، وكأنه يعود إلى مئات السنين أو يمتد إلى العصر الإسلامي الأول.

بالطبع كانت النساء قبل الثورة الإيرانية، وخاصة في الأرياف والقرى والمناطق المحافظة في طول المنطقة العربية وعرضها، يضعن بعض الأغطية على رؤوسهن، ولكن كان ذلك تعبيرا عن عرف أو تقليد اجتماعي في الغالب، ولم يكن لأسباب دينية.

الانقلابات العسكرية ساهمت إلى حد بعيد في القضاء على ثقافة المدن العربية

​​الحجاب الحالي، وأنا لا أنتقده هنا فهو في الأخير حرية شخصية، هو تعبير سياسي أكثر منه ديني، لأنه مرتبط بحقبة معينة ساد فيها فهم معين للإسلام، ولم يكن موجودا قبلها. كما أنه استخدم في فترة لاحقة للتعبير عن التزام ديني معين، كما لو أن المسلمين لم يكونوا يعرفون أو يلتزمون بدينهم قبل ذلك التاريخ.

الجماعات المتشددة

ينطبق الأمر هنا أيضا على الجماعات الإسلامية المتشددة. إن من يرى انتشارها اليوم يعتقد بأنها موجودة منذ سنوات طويلة، بينما الحقيقة أن سنوات السبعينيات هي الفترة التي يمكن الإشارة إليها لظهور وانتشار هذه الجماعات. باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي يعود تاريخها إلى العشرينيات، والتي لم يكن لها على أية حال نشاط ملحوظ قبل ثلاثين أو أربعين عاما. بل كانت أفرعها في المنطقة دائما على هامش الحياة السياسية والأدبية والثقافية والإعلامية العربية.

والإشارة إلى فترة السبعينيات لها أهمية قصوى لفهم ما يجري اليوم في العالم العربي. فهناك أولا حرب أفغانستان أو الغزو السوفييتي لهذ البلد والذي شهد أولى المحاولات الجادة لتنظيم وعسكرة الجماعات الإسلامية على نطاق واسع. وبهذا المعنى فقد كانت تجربة أفغانستان هي الرافعة للعمل الجهادي المسلح بشكل عام. طبعا كان ذلك بمباركة رسمية وغير رسمية من حكومات وأنظمة في المنطقة وخارجها.

وهناك ثانيا الثورة الإيرانية التي قدمت نموذجا لإمكانية إقامة دولة دينية لأول مرة في العصر الحديث في المنطقة.

الإسلام "الصحراوي"

لكن تبقى الدلالة الأهم في تلك المرحلة هي حرب عام 1973 بين العرب وإسرائيل، وتحديدا قطع النفط العربي عن الغرب، والذي أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعاره. تخيل مثلا أن يرتفع سعر برميل النفط من 3 دولارات إلى 14 دولار؟

هذا الارتفاع صب في خزائن الدول النفطية، وخاصة الخليجية، مبالغ طائلة. ومن هذه المبالغ تم تمويل ونشر النسخة "الصحراوية" من الإسلام في العالم مثل النار في الهشيم، سواء عبر التمويل المباشر أو المنح الدراسية أو التمكين السياسي.

الحجاب في شكله الحالي على الأقل، لم يكن موجودا قبل الثورة الإيرانية عام 1979

​​هذه النسخة التي ترتكز على السيف وترفع شعار التكفير، قدمت الإسلام على أنه ديانة حرب وقتل وغزو. وبالطبع ساهمت أموال النفط ليس فقط في تمويل هذه النسخة "الصحراوية"، وإنما في رفع منسوب التيارات الإسلامية كلها في المنطقة بشكل أو بآخر. ولولا هذه الأموال لما تمكنت الجماعات المتشددة من تنظيم نفسها أو تجنيد المسلحين أو البقاء حتى اليوم.

ترييف المدن

الأمر الثالث الذي يجدر الحديث عنه هنا بما أننا نتحدث عن الذاكرة، هو أن المنطقة العربية التي نعيشها اليوم، كانت مختلفة تماما من النواحي الاجتماعية والثقافية والسياسية ومظاهر التمدن، قبل الثورات أو الانقلابات العسكرية التي شهدتها منذ حقبة الخمسينيات والستينيات.

هذه الانقلابات، والتي قادها في الغالب ضباط قادمون من القرى والأرياف، ساهمت إلى حد بعيد في القضاء على ثقافة المدن العربية وتقاليدها ونشاطها وحضارتها.

من هذه المبالغ تم تمويل ونشر النسخة "الصحراوية" من الإسلام في العالم

​​فقد كان المعوّل أن يتم تمدين القرى والأرياف مع مرور الوقت، لكن ما حدث بدلا من ذلك هو ترييف المدن والعواصم العربية، وساهم الزحف العكسي والعشوائي باتجاه المدن في تآكل المكاسب الحضارية والثقافية والتعليمية التي تحققت في العقود السابقة.

حدث ذلك في معظم المدن العربية، بما في ذلك دول الخليج، التي وإن اتخذ فيها هذا الأمر طابعا مختلفا نسبيا عن باقي الدول العربية، إلا أن المدينة هنا أيضا عانت من آثار إشاعة وغلبة ثقافة التصحر والبادية.

وفي المجمل يمكن القول إن التدهور الحاصل على جميع الأصعدة في المنطقة العربية، يعود في جانب كبير منه إلى التطورات التي ذكرتها أعلاه، وإنه لا يمكن تحقيق أي نهضة من دون إعادة الاعتبار إلى المدينة وثقافتها وتقاليدها ودينها المعتدل.

اقرأ للكاتب أيضا: عصابات الجنجويد تجتاح الخرطوم

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.