في أعقاب ثورات الربيع العربي وجدت بعض جماعات الإسلام السياسي، ومنها جماعة الإخوان المسلمين المصرية، حرجا كبيرا في الاستمرار في رفع شعارات الحاكمية وتطبيق الشريعة فقررت الخروج من ذلك المأزق عبر طرح جديد يتمثل في إنشاء "حزب مدني" يستند إلى "مرجعية إسلامية" باعتباره حلا يدفع عنها شبهة السعي للخلط بين السياسة والدين وتوظيف الأخير لخدمة الأهداف السياسية.
وإذ تحيل المرجعية إلى السلطة أو الجهة التي يتم الاحتكام إليها بين أطراف متنازعة عجزت عن الوصول لحل في موضوع خلافها، فإنه ـ كما يقول علي مبروك ـ لا بد من تصورها على نحو من الثبات يسهل افتراضه في الديني (الإلهي) أكثر من المدني (البشري)، هذا الثبات يجعل من الديني مرجعا محددا للمدني المتغير بطبيعته.
في هذا الإطار يطرأ السؤال التالي: هل الديني (الإسلام) هو حقا شأن ثابت بطريقة تجعل منه مرجعا مُحددا للمدني؟ الإجابة على هذا السؤال تقودنا للنظر في الجوانب المكونة للإسلام، حيث نجد أنه ينقسم إلى قسمين هما العبادات والمعاملات؛ الجانب الأول يحدد العلاقة الخاصة بين العبد وربِّه، والثاني يحدد العلاقة بين الإنسان (المؤمن) والبشر عموما، وإذا كان الجانب الأول يُحيل إلى الثبات بطبيعته، فإن الجانب الثاني مجال للتغير المستمر.
وبما أن الحزب الذي استحدثته جماعات الإسلام السياسي هو في الأساس حزب سياسي، وأنه سيقوم بتطوير خطابه وشعاراته و برامجه بناء على المرجعية الإسلامية، فإن من البديهي ألا تكون تلك المرجعية قائمة على الجانب التعبدي الذي يخص علاقة الفرد بربه، ذلك أن الخاص لا يمكن أن يشكل مرجعا للعام، وأنها يُفترض أن تنبني على جانب المعاملات الذي تتحدد بموجبه العلاقة مع الآخرين، وتسن بناء عليه التشريعات والقوانين التي تحكم تلك العلاقة.
هنا تنشأ المعضلة الرئيسية التي تبين استحالة قيام تلك المرجعية، خصوصا وأن جانب المعاملات في الدين في جوهره ليس ثابتا، وأنه لا يُحدِّد الشق البشري (المدني) بل يتحدد به بحيث يصبح الأخير في واقع الأمر مرجعية للديني وليس العكس، وهو ما أشار اليه الفقيه الحنبلي، نجم الدين الطوفي، بقوله إن "المعاملات لا سبيل إلى ضبطها إلا باعتبار المصالح، التي يصل الأمر بالرجل إلى حد القول بأن العقل يكون هو الأعلم من الشرع بها".
وإذ يعتمد ضبط المعاملات على المصالح باعتبارها شأنا دنيويا، وفقا للطوفي، وكذلك بحسب الحديث النبوي "أنتم أدرى بشؤون دنياكم"، فإنه يصبح من غير الممكن الادعاء بأن المرجعية الدينية ستكون هي المحدد للتوجهات المدنية ذلك لأن المصالح تتغير بتغير الزمان والمكان.
ليس هذا فحسب، بل إن قاعدة التغير هذه تشمل كذلك القوانين والتشريعات، حيث أن الأخيرة ترتبط ارتباطا وثيقا بالتغير في أحوال الاجتماع الإنساني بما يتضمنه من تطور يطرأ على المجتمع بفعل اختلاف الزمان، وفي هذا الإطار فإن هناك نوعا من العقوبات كانت تتماشى مع أحوال تاريخية في الماضي ولكن يتعذر تطبيقها في الأزمنة الحاضرة، بسبب التطور الحضاري الذي أصابته المجتمعات البشرية.
من ناحية أخرى، فإن هناك جانبا من الدين يتخلل بُعدي العبادة الفردية والمعاملات هو جانب القيم (الأخلاق) التي من شاكلة الصدق والأمانة والوفاء بالعهود، وكذلك الحرية والعدل والكرامة، ويشكل هذا الجانب المقاصد الكبرى الأكثر ثباتا في الدين، وهو معلوم بالضرورة ولا يحتاج حزب مدني للإشارة إليه كمرجعية لأن تلك القيم تتشارك فيها مختلف الأحزاب صاحبة الدعوات الرشيدة سواء كان منطلقها الدين أو الأخلاق.
وإذا كان الأمر كذلك، فان أية حزب يتحدث عن "الديني" كمرجع "للمدني" لن يكون غرضه ـ كما يقول مبروك ـ سوى وضع هالات القداسة على قواعد الضبط السياسي والاجتماعي التي يسعى من خلالها للسيطرة على المجال العام، وكذلك ممارسة نوع من الحصانة الدينية على شعاراته ورؤاه وبرامجه بصورة تجعلها فوق المساءلة التي تخضع لها بقية الأحزاب، مما يؤدي في خاتمة المطاف إلى فرض وصايته على الجمهور باسم الدين.
يؤكد ما ذهبنا إليه أعلاه خطاب ألقاه الأمين العام لحزب العدالة والتنمية في المغرب، سعد الدين العثماني، خلال انعقاد الدورة العادية للجنة المركزية لشبيبة العدالة والتنمية في شباط/فبراير الماضي أكد فيه أن حزبه "يعمل وفق مشروعه السياسي المبني على أسس المرجعية الإسلامية المؤطرة لنضال وعمل الحزب".
وقال العثماني بحسب موقع "هبة بريس": "المرجعية الإسلامية ليس نحن من وضعها بل هي محددة من عند الله"، مضيفا: "نحن نحرص على أن نلتزم بأدبيات المرجعية الإسلامية، وبأخلاقها وبتوجيهاتها وبمبادئها وبقيمها وبأحكامها وليس أن نشوهها كي توافق أهواءنا".
وإذ يقول العثماني إن المرجعية الإسلامية "محددة من عند الله"، فإنه إنما يعمل على منح حزبه هالة من القداسة تتساوى مع الدين نفسه، ذلك لأن أحدا لا يستطيع المساس بشيء حدده الله سلفا، وبالتالي فإننا نكون بإزاء حزب يستخدم ذات السلاح القديم الذي ظلت ترفعه جماعات الإسلام السياسي في وجه كل من يعارضها باتهامه بمعارضة الدين (الإسلام).
ليس هذا فحسب، بل إن تأكيده على الالتزام "بأحكام" تلك المرجعية الإسلامية لا يعني شيئا سوى العودة مرة أخرى لشعار تطبيق الشريعة، ومن ضمنها قوانين العقوبات الشرعية، إذ أن الأخيرة تقع بالضرورة في إطار الجانب الثاني للدين (المعاملات)، وهو الشعار الذي حاولت جماعات الإسلام السياسي تمويهه عبر طرح موضوع الحزب المدني ذو المرجعية الإسلامية.
ختاما نقول إن تبني جماعات الإسلام السياسي لموضوع الحزب المدني ذو المرجعية الإسلامية ليس سوى محاولة لوضع ذات النبيذ القديم في قنان جديدة، وهو في حقيقته استمرار للأساليب السابقة التي تعمد إلى ممارسة السياسة بالمفاهيم التي يتخفى مضمونها السياسي والاجتماعي وراء قناع الدين.
اقرأ للكاتب أيضا: التوظيف السياسي للدين: الإخوان المسلمون نموذجا
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).