مع تسارع الأحداث والمستجدات في العالمين العربي والإسلامي، تتسابق الجماعات الجهادية ومناصريها في التشكيك في جدوى الهبات الشعبية السلمية في إسقاط الأنظمة القمعية في المنطقة وإحداث التغيير الذي تنشده الجماهير. وتتصاعد وتيرة حماسهم في دعوة "أبناء الأمة" إلى "إعداد العدة" و"النفير" إلى "ساحات الجهاد" كلما اشتد القمع على الشعوب وازداد بطش السلطات بالمتظاهرين وكلما أعادت الأنظمة المستبدة إنتاج نفسها أو عند وصول من يختلفون مع توجهاته وسياساته إلى سدة الحكم.
وترى الجماعات الجهادية في معرض انتقادها لثورات الربيع العربي أن النضال السلمي لم يحم الثوار من البطش والتنكيل ولم يحفظ المكتسبات التي حققتها الجماهير في دول كتونس واليمن والبحرين ومصر والسودان ولم ينجح في اقتلاع الأنظمة القمعية من جذورها.
وعلى الرغم من التباين الواضح بين التيارات الجهادية الذي يصل إلى حد العداء كما هو الحال بين تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية، إلا أن قادة وأنصار كلا الجماعتين يتفقون على أن الجهاد هو الحل الوحيد للتخلص من الأنظمة المستبدة واستبدالها بأخرى من أجل تحكيم الشريعة والحفاظ على مقدرات الأمة واستعادة مقدساتها وإعادة أمجادها كما يدعون.
تنظيم القاعدة وأنصاره لا يخفون تأييدهم للتظاهرات السلمية لكنهم في الوقت نفسه يروجون ويتغنون في كل مناسبة بتجارب الجماعات الجهادية كحركة الشباب الصومالية، وفروع القاعدة في المغرب واليمن وتونس ومالي وجماعة "طالبان" وغيرها ويؤمنون بأن المجاهدين هم الوحيدون الذين يدافعون عن "شرف" الأمة ويقفون في وجه الطغاة والمحتلين.
كان هذا التوجه واضحا في بيان القيادة العامة للقاعدة الصادر في شهر نيسان/أبريل الماضي والذي أعلن فيه التنظيم تأييده للهبات الجماهيرية السلمية في الدول العربية والإسلامية لكنه طالب المتظاهرين بـ"تشكيل قوات دفاع لحماية الثورة والثوار" وحذر من "الأحزاب العلمانية والشيوعية".
أما جماعة الدولة فلا يفوت قادتها وأنصارها أي فرصة للتقليل من شأن التظاهرات السلمية كان آخرها تعليق زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي على الأوضاع في كل من الجزائر والسودان حيث اتهم الشعوب بعدم معرفة الأسباب التي خرجوا من أجلها، وقال إنهم يستبدلون الطواغيت بآخرين، وأشار إلى أن "السبيل الوحيد الذي ينجع مع الطواغيت هو الجهاد في سبيل الله" بحسب تعبيره.
وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي تبذله الجماعات الجهادية وأنصارها على مواقع التواصل الاجتماعي في حث الشباب على اللحاق بركب الجهاديين مستندين في ذلك على تراث إسلامي ضخم يعتبر الجهاد "ذروة سنام الإسلام" ويعلي من شأن المجاهدين ويحبب إليهم فكرة "الاستشهاد" في سبيل الله من أجل نيل رضوان الله ودخول جنته ومضاجعة الحور العين، إلا أنهم فشلوا في تغيير المسار السلمي للثورات في المنطقة ولم ينجر وراء أطروحاتهم سوى فئة من المؤدلجين البؤساء ممن يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
تجاهل الشباب الثائر تلك الشعارات الدينية الرنانة واختاروا التمسك بسلميتهم في مواجهة الاستبداد لإدراكهم أن العنف دائرة مغلقة تبرر للأنظمة استخدام السلاح لقمع المطالبين بالتغيير ولإيمانهم بأن النضال السلمي أسلوب حضاري يكشف عن وعي عميق بالتاريخ والواقع والنفس البشرية ويفتح آفاقا رحبة للخروج من دائرة العنف والعنف المضاد ويخاطب الضمير الإنساني ويقطع الطريق أمام المؤدلجين الذين يبررون استخدام العنف ويعتبرونه واجبا دينيا مقدسا ضد كل من يخالفونهم.
وقد استفادت الجماهير الثائرة ضد الاستبداد من تجارب الأمم والشعوب الأخرى قديما وحديثا ولذلك تمسكوا بسلميتهم في وجه البطش ورفضوا الانزلاق إلى دوامة العنف حتى لا تكرر المآسي والنكبات التي طالت البشر والأشجار والحجار ويصطلي بسعيرها اليوم الأطفال والشيوخ والنساء قتلا ودمارا وتهجيرا في الصومال وسوريا وليبيا واليمن.
كما يدرك أنصار النهج السلمي أن من الصعوبة بمكان إعادة مارد العنف إلى قمقمه في حال خروجه وذلك لأن القوى الاقليمية المتصارعة في المنطقة تحرص على إثارة الفتن والحروب بتوفير المال والسلاح للأنظمة القمعية والجماعات الجهادية من أجل إفشال ثورات الربيع العربي حتى يتسنى لهم الحفاظ على عروشهم.
وتهدف القوى الإقليمية التي تعبث بأمن واستقرار الدول التي تسعى شعوبها إلى التخلص من الحكام المستبدين إلى إرسال رسالة إلى مواطنيهم مفادها أن مصيرهم لن يكون أفضل حالا من مصائر شعوب الدول التي أججوا فيها نيران الفتن والحروب إن فكروا يوما في المطالبة بحقوقهم الأساسية.
لقد أثبتت ثورات المنطقة أن أنظمة الاستبداد بحاجة إلى الجماعات الجهادية من أجل تبرير بقائها في الحكم بداعي المحافظة الأمن والاستقرار والتصدي للإرهاب. كما أثبتت أيضا أن الجماعات الجهادية بحاجة إلى الأنظمة المستبدة من أجل تبرير استخدامها للعنف بداعي التصدي للطغيان والدفاع عن المستضعفين ومجاهدة الظالمين.
إن كلا الفريقين يدرك أنه لا يملك سوى العنف والبطش والفساد وأنهما وجهان لعملة واحدة يتبادلان أدوار الضحية والجلاد من أجل مطامع شخصية في حالة الأنظمة القمعية وتلبية لآراء دينية متطرفة في حالة الجماعات الجهادية.
وبنظرة سريعة إلى واقع الشعوب والمجتمعات تحت حكم أنظمة الاستبداد وشريعة الجماعات الجهادية يتجلى لنا بوضوح أن الإنسان هو الخاسر الأكبر فيهما فهو إما سجين معذب في سجون الطغاة أو قتيل برصاص الأجهزة الأمنية إن خرج في تظاهرة سلمية للمطالبة بحقوقه أو مرتد وكافر إن حلق لحيته أو أطال ثوبه أو مارس حقه في اختيار معتقده أو ميوله الجنسية ليعاقب بالجلد أو القتل بحد السيف أو رجما ورميا من فوق أسطح المباني.
لقد أدركت الشعوب ألا خير يرجى من كلا الفريقين وأن الحل الوحيد للخروج من دائرة الاستبداد الذي يتحجج بالجماعات الجهادية من أجل شرعنة قمعه وبطشه وانتهاكه لحقوق الإنسان، والتطرف الديني الذي يبرر إرهابه في سبيل القضاء على الاستبداد، يكمن في مقاومة أنظمة الاستبداد وتجاهل دعوات الجهاديين بالتمسك بالوسائل السلمية تظاهرا واعتصاما وعصيانا إلى أن يتحقق الحلم في الحرية والسلام والعدالة.
اقرأ للكاتب أيضا: مؤامرة الجماعات الجهادية ضد الثورة السودانية
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).