سودانيون معتصمون وسط الخرطوم عشية "تظاهرة مليونية" ضد المجلس العسكري الحاكم في السودان
سودانيون معتصمون وسط الخرطوم

منصور الحاج/

مع تسارع الأحداث والمستجدات في العالمين العربي والإسلامي، تتسابق الجماعات الجهادية ومناصريها في التشكيك في جدوى الهبات الشعبية السلمية في إسقاط الأنظمة القمعية في المنطقة وإحداث التغيير الذي تنشده الجماهير. وتتصاعد وتيرة حماسهم في دعوة "أبناء الأمة" إلى "إعداد العدة" و"النفير" إلى "ساحات الجهاد" كلما اشتد القمع على الشعوب وازداد بطش السلطات بالمتظاهرين وكلما أعادت الأنظمة المستبدة إنتاج نفسها أو عند وصول من يختلفون مع توجهاته وسياساته إلى سدة الحكم.

وترى الجماعات الجهادية في معرض انتقادها لثورات الربيع العربي أن النضال السلمي لم يحم الثوار من البطش والتنكيل ولم يحفظ المكتسبات التي حققتها الجماهير في دول كتونس واليمن والبحرين ومصر والسودان ولم ينجح في اقتلاع الأنظمة القمعية من جذورها.

تجاهل الشباب الثائر تلك الشعارات الدينية الرنانة واختاروا التمسك بسلميتهم في مواجهة الاستبداد

​​وعلى الرغم من التباين الواضح بين التيارات الجهادية الذي يصل إلى حد العداء كما هو الحال بين تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية، إلا أن قادة وأنصار كلا الجماعتين يتفقون على أن الجهاد هو الحل الوحيد للتخلص من الأنظمة المستبدة واستبدالها بأخرى من أجل تحكيم الشريعة والحفاظ على مقدرات الأمة واستعادة مقدساتها وإعادة أمجادها كما يدعون.

تنظيم القاعدة وأنصاره لا يخفون تأييدهم للتظاهرات السلمية لكنهم في الوقت نفسه يروجون ويتغنون في كل مناسبة بتجارب الجماعات الجهادية كحركة الشباب الصومالية، وفروع القاعدة في المغرب واليمن وتونس ومالي وجماعة "طالبان" وغيرها ويؤمنون بأن المجاهدين هم الوحيدون الذين يدافعون عن "شرف" الأمة ويقفون في وجه الطغاة والمحتلين.

كان هذا التوجه واضحا في بيان القيادة العامة للقاعدة الصادر في شهر نيسان/أبريل الماضي والذي أعلن فيه التنظيم تأييده للهبات الجماهيرية السلمية في الدول العربية والإسلامية لكنه طالب المتظاهرين بـ"تشكيل قوات دفاع لحماية الثورة والثوار" وحذر من "الأحزاب العلمانية والشيوعية".

أما جماعة الدولة فلا يفوت قادتها وأنصارها أي فرصة للتقليل من شأن التظاهرات السلمية كان آخرها تعليق زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي على الأوضاع في كل من الجزائر والسودان حيث اتهم الشعوب بعدم معرفة الأسباب التي خرجوا من أجلها، وقال إنهم يستبدلون الطواغيت بآخرين، وأشار إلى أن "السبيل الوحيد الذي ينجع مع الطواغيت هو الجهاد في سبيل الله" بحسب تعبيره.

وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي تبذله الجماعات الجهادية وأنصارها على مواقع التواصل الاجتماعي في حث الشباب على اللحاق بركب الجهاديين مستندين في ذلك على تراث إسلامي ضخم يعتبر الجهاد "ذروة سنام الإسلام" ويعلي من شأن المجاهدين ويحبب إليهم فكرة "الاستشهاد" في سبيل الله من أجل نيل رضوان الله ودخول جنته ومضاجعة الحور العين، إلا أنهم فشلوا في تغيير المسار السلمي للثورات في المنطقة ولم ينجر وراء أطروحاتهم سوى فئة من المؤدلجين البؤساء ممن يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

تجاهل الشباب الثائر تلك الشعارات الدينية الرنانة واختاروا التمسك بسلميتهم في مواجهة الاستبداد لإدراكهم أن العنف دائرة مغلقة تبرر للأنظمة استخدام السلاح لقمع المطالبين بالتغيير ولإيمانهم بأن النضال السلمي أسلوب حضاري يكشف عن وعي عميق بالتاريخ والواقع والنفس البشرية ويفتح آفاقا رحبة للخروج من دائرة العنف والعنف المضاد ويخاطب الضمير الإنساني ويقطع الطريق أمام المؤدلجين الذين يبررون استخدام العنف ويعتبرونه واجبا دينيا مقدسا ضد كل من يخالفونهم.

وقد استفادت الجماهير الثائرة ضد الاستبداد من تجارب الأمم والشعوب الأخرى قديما وحديثا ولذلك تمسكوا بسلميتهم في وجه البطش ورفضوا الانزلاق إلى دوامة العنف حتى لا تكرر المآسي والنكبات التي طالت البشر والأشجار والحجار ويصطلي بسعيرها اليوم الأطفال والشيوخ والنساء قتلا ودمارا وتهجيرا في الصومال وسوريا وليبيا واليمن.

كما يدرك أنصار النهج السلمي أن من الصعوبة بمكان إعادة مارد العنف إلى قمقمه في حال خروجه وذلك لأن القوى الاقليمية المتصارعة في المنطقة تحرص على إثارة الفتن والحروب بتوفير المال والسلاح للأنظمة القمعية والجماعات الجهادية من أجل إفشال ثورات الربيع العربي حتى يتسنى لهم الحفاظ على عروشهم.

وتهدف القوى الإقليمية التي تعبث بأمن واستقرار الدول التي تسعى شعوبها إلى التخلص من الحكام المستبدين إلى إرسال رسالة إلى مواطنيهم مفادها أن مصيرهم لن يكون أفضل حالا من مصائر شعوب الدول التي أججوا فيها نيران الفتن والحروب إن فكروا يوما في المطالبة بحقوقهم الأساسية.

لقد أثبتت ثورات المنطقة أن أنظمة الاستبداد بحاجة إلى الجماعات الجهادية من أجل تبرير بقائها في الحكم بداعي المحافظة الأمن والاستقرار والتصدي للإرهاب. كما أثبتت أيضا أن الجماعات الجهادية بحاجة إلى الأنظمة المستبدة من أجل تبرير استخدامها للعنف بداعي التصدي للطغيان والدفاع عن المستضعفين ومجاهدة الظالمين.

إن كلا الفريقين يدرك أنه لا يملك سوى العنف والبطش والفساد وأنهما وجهان لعملة واحدة يتبادلان أدوار الضحية والجلاد من أجل مطامع شخصية في حالة الأنظمة القمعية وتلبية لآراء دينية متطرفة في حالة الجماعات الجهادية.

العنف دائرة مغلقة تبرر للأنظمة استخدام السلاح لقمع المطالبين بالتغيير

​​وبنظرة سريعة إلى واقع الشعوب والمجتمعات تحت حكم أنظمة الاستبداد وشريعة الجماعات الجهادية يتجلى لنا بوضوح أن الإنسان هو الخاسر الأكبر فيهما فهو إما سجين معذب في سجون الطغاة أو قتيل برصاص الأجهزة الأمنية إن خرج في تظاهرة سلمية للمطالبة بحقوقه أو مرتد وكافر إن حلق لحيته أو أطال ثوبه أو مارس حقه في اختيار معتقده أو ميوله الجنسية ليعاقب بالجلد أو القتل بحد السيف أو رجما ورميا من فوق أسطح المباني.

لقد أدركت الشعوب ألا خير يرجى من كلا الفريقين وأن الحل الوحيد للخروج من دائرة الاستبداد الذي يتحجج بالجماعات الجهادية من أجل شرعنة قمعه وبطشه وانتهاكه لحقوق الإنسان، والتطرف الديني الذي يبرر إرهابه في سبيل القضاء على الاستبداد، يكمن في مقاومة أنظمة الاستبداد وتجاهل دعوات الجهاديين بالتمسك بالوسائل السلمية تظاهرا واعتصاما وعصيانا إلى أن يتحقق الحلم في الحرية والسلام والعدالة.

اقرأ للكاتب أيضا: مؤامرة الجماعات الجهادية ضد الثورة السودانية

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.