معارضون للنظام الإيراني يتظاهرون أمام البيت الأبيض دعما للمقاومة الإيرانية
معارضون للنظام الإيراني يتظاهرون أمام البيت الأبيض دعما للمقاومة الإيرانية

بسام بربندي/

لم تستقم العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران منذ حصول الانقلاب على شاه إيران عام 1979 حتى يومنا هذا. بدأت أول الأزمات بين البلدين مع اقتحام مجموعة من الطلاب الإسلاميين في إيران السفارة الأميركية واحتجاز 52 أميركيا من السفارة كرهائن لمدة 444 يوم من 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1979 حتى 20 كانون الثاني/يناير 1981.

تعلم نظام آيات الله الكثير من هذه الأزمة؛ خصوصا لجهة كيفية التأثير على السياسة الداخلية الأميركية وتحديدا في فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ترافقت مع أزمة الرهائن من خلال رفضهم إطلاق سراح الرهائن ورفض العروض المقدمة حتى تأكد آيات الله من خسارة الرئيس كارتر للانتخابات، فتم إطلاق سراح الرهائن في أول يوم من حكم الرئيس الجمهوري رونالد ريغان.

لا تكترث طهران بعواقب مواقفها داخليا وتأثيرها على إيران الشعب والمستقبل

​​استمرت الحروب بالوكالة بين البلدين مثل تفجير حزب الله للسفارة الأميركية في بيروت عام 1983 وقتل 281 عسكريا أميركيا ومراقبة ردة الفعل الأميركية التي تمثلت بقصف عدة مواقع ثم الانسحاب من لبنان. إلا أن التجربة الأهم والأطول كانت خلال الاحتلال الأميركي للعراق حيث أصبحت الولايات المتحدة جارة لإيران.

أتاح التواجد العسكري الأميركي في العراق فرصة كبيرة للإيرانيين لفهم العقلية الأميركية عن قرب ومعرفة خطوط الأميركيين الحمراء وطرق اتخاذ القرار بالأمور العسكرية والعلاقة بين المؤسسات الأميركية ومدى تأثير الرأي العام الأميركي على القرارات السياسية.

تعلمت إيران كيف تبرز نفسها كطرف مفيد وعدو، في الوقت عينه، للجانب الأميركي في العراق؛ كانت تعتقل أميركيين من أصل إيراني وتنفذ تفجيرات لزعزعة استقرار العراق وتدعم المجموعات الإرهابية لإضعاف التواجد الأمريكي وإظهاره كفاشل في تنفيذ مهمته ثم تعمل معه بشكل غير مباشر في العملية السياسية وفي تشكيل حكومات العراق بطريقة تخدم إعلاميا الوجود الأميركي بتحقيق الاستقرار، لكن في الوقت نفسه فإن المشاركين في هذه الحكومات ينفذون الأهداف الإيرانية.

مارست إيران كل ما لديها من شرور على القوات الأميركية في العراق: من قتل وتفجير وتفخيخ واغتيالات للأميركيين أو الأشخاص الذين يعملون معهم من مدنيين وعسكريين ودرست ردة الفعل والاجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة في الرد على كل عملية ما كون لدى الإيرانيين خريطة طريق واضحة لفهم العقل الأميركي وطريقة التعامل معه وإيذائه من دون المغامرة بالوصول إلى النقطة التي تدفع واشنطن للقيام بردة فعل قوية أو مواجهة حقيقية بين البلدين.

ومثلت المحادثات الأميركية ـ الإيرانية حول الملف النووي فرصة أخرى للإيرانيين للجلوس مباشرة مع الأميركيين والتعلم أكثر كيف يفرضون أولوياتهم على أقوى دولة في العالم؛ إذ بدت إيران خلال المفاوضات وكأنها هي الدولة العظمى مستفيدة من رغبة الإدارة السابقة في التوصل إلى اتفاق نووي دون النظر بعمق إلى باقي الأزمات التي تسببها إيران في المنطقة وبدا أن العلاقة كانت عبارة عن توافق حول الاتفاق النووي مقابل سيطرة إيران على العراق واليمن وسوريا ولبنان وغزة.

أعلنت الإدارة الأميركية الحالية منذ يومها الأول أنها تريد من إيران: أن تعود كدولة طبيعية في المنطقة دون أي تتدخل بشؤون الدول المجاورة؛ وتوقف دعمها للإرهاب؛ وتقدم ضمانات حقيقية ودولية بخصوص برنامجها النووي والصاروخي؛ وهذا ما رفضته إيران منذ اليوم الأول.

فقررت الإدارة الأميركية الانسحاب من الاتفاق النووي والبدء بخطة ضغط قاسية عبر فرض عقوبات اقتصادية، وصفها المسؤولون الأميركيون بأنها الأقصى من نوعها، شملت مؤخرا منع تصدير النفط الإيراني.

لجأت إيران إلى أسلوبها المعتاد، عبر ممارسة أعمال "نكاية" عسكرية، عبر وكلائها أو عبر قواتها مباشرة، وثم أرسلت الولايات المتحدة تعزيزات عسكرية لمنطقة الخليج العربي للرد على ازدياد التهديدات الإيرانية العسكرية لأمن المنطقة.

اليوم وفي ضوء ازدياد التوتر العسكري بين الولايات المتحدة وإيران، على الإدارة الأميركية أن تعي تماما أنها تضغط على دولة تعرف دقائق الأمور في واشنطن ومدركة كل تفاصيل السياسة الداخلية فيها وتعرف كيف تتلاعب وتستفيد مما تعرفه لصالحها في الضغط على الداخل الأميركي؛ في المقابل لا يملك الأميركيون مثل هذا التأثير على الداخل الإيراني وعلى آلية صنع القرار فيه لطبيعة نظام الحكم الديني المنغلقة التي ترى أن بقاء النظام أهم من بقاء الشعب، لذلك نرى ونسمع التصريحات الصادرة من الحرس الثوري الإيراني المعززة بالكثير من التهديد والوعيد و في نفس الوقت نرى تصريحات السياسيين الإيرانيين تدعو إلى التهدئة وإلى دعوة الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا لأن يدعموا مواقفها؛ ثم يصرح المرشد أنه لم يقتنع أصلا بالاتفاق النووي.

أتاح التواجد العسكري الأميركي في العراق فرصة كبيرة للإيرانيين لفهم العقلية الأميركية

​​تصدر هذه المواقف الإيرانية بناء على تقديرهم لردود الفعل الأميركية، العسكرية منها والسياسية والشعبية دون الاكتراث بعواقب هذه المواقف داخليا وتأثيرها على إيران الشعب والمستقبل.

على الولايات المتحدة أن تدرك أنها إذا أرادت أن تحقق النتائج التي تريدها من إيران، فعليها تغيير قواعد اللعبة بشكل جذري وجديد؛ أن تدفع باتجاه سياسة تُظهر ضعف إيران العسكري والاقتصادي وتهز بنية الدولة الهشة والقائمة على إثارة الفتن والمشاكل لكل دول الجوار.. وتهز مصداقية طهران ونظام آيات الله بين الوكلاء في الدول المجاورة.

فشل الولايات المتحدة في إدراك هذه المعلومة البسيطة قد يكلفها ويكلف المنطقة خسائر كبيرة سياسيا واقتصاديا واستقرار وقد يجعل إيران ناخبا مخربا في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في تكرار لتجربة أزمة الرهائن.

بسام بربندي هو دبلوماسي سوري سابق، يمكن التواصل معه عبر تويتر @BassamPDC

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.