الصدفة جعلت أحداث هونغ كونغ تندلع عند انتهائي من قراءة رواية "مقصورة الجاد" لمؤلفها هاينز كونساليك. طوق مئات آلاف الشباب أبنية حكومية وسط مدينة هونغ كونغ، لفرض مطلبهم بسحب مشروع القانون الذي تدعمه بكين. ويبدو أنها من أكبر التظاهرات منذ تسليم البريطانيين هذا الإقليم إلى الصين في عام 1997. وتتمتع المستعمرة البريطانية السابقة، بشبه حكم ذاتي بموجب مبدأ "دولة واحدة ونظامان".
والقانون المقترح يسمح بتسليم المتهمين إلى السلطات المركزية في الصين لمحاكمتهم. وهذا ما أغضب سكان هونغ كونغ لأنهم يعتبرون أن القضاء الصيني غامض ومسيس؛ ويخشون أن يسمح القانون المقترح للصين باستهداف المعارضين السياسيين في هونغ كونغ. ما سيؤدي إلى مزيد من تراجع استقلال المدينة القضائي. كما أن تسليم المتهمين برأيهم يسيء إلى صورة هونغ كونغ؛ ويمكن أن يضر بثقة المستثمرين فيها ويقوض مميزاتها التنافسية؛ وهي التي تعد مركزا ماليا وتجاريا عالميا، وتأتي في الطليعة على مؤشر رأس المال البشري (Human Capital Project) الذي أطلقه البنك الدولي، مباشرة بعد سنغافورة، ومع كوريا الجنوبية واليابان وفنلندا وهولندا والسويد.
وللمدينة قوانينها الخاصة، ويتمتع سكانها بحريات مدنية، غير متاحة لنظرائهم في البر الرئيسي للصين.
وللمصادفة أن مطلع الشهر الحالي، 4 حزيران/يونيو، كان موعد الذكرى 23 لمجزرة تيانامين (أكبر ساحة في العالم تبلغ مساحتها 440 ألف متر مربع)، التي ذهب ضحيتها آلاف الطلاب (العدد الدقيق غير معروف) لأنهم طالبوا بترسيخ الديمقراطية وبالمزيد من الحريات وعدم قمع الأقليات؛ وهي المجزرة التي تختم الرواية بها. حصل ذلك في فترة الانفتاح البسيط الذي تلا موت ماو تسي تونغ.
تجري أحداث الرواية في مرحلة ما بعد حكم ماو تسي تونغ. تبدأ مع زوجين عجوزين من فقراء الفلاحين في إحدى القرى النائية وسط جنوبي الصين، يقصدان معبدا في أعالي جبل الجاد طلبا للشفاء من الكهنة ـ الرهبان القاطنين هناك. وهو مقصد فقراء الفلاحين الذين يعجز الطب التقليدي عن شفائهم. بعد الطقوس التقليدية المطلوبة، يقوم الكاهن المعالج الطاعن في السن، بحيث يصعب تحديد عمره وعمر مساعدته، بفحص المريض بدقة طبيب ويستخدم أداة طبية حديثة (الناضور) ليأخذ خزعة من معدة مريضه ويصف له الدواء والحمية المناسبان.
نكتشف في نهاية الرواية أن هذا الكاهن، هو نفسه طالب الطب الذي اختفى إثر مشاركته في انتفاضة تيانامين؛ وعقدة الرواية هي أن الطالب، ابن طبيب كبير من أسرة هان العريقة (المنداران) التي خدمت الأباطرة، رفضت أن يتزوج ابنة مدرس فقير من أقلية "المياو" (Miao)، إحدى الأقليات المضطهدة في الصين.
لجأ هذا الطالب بعد المجزرة إلى كاهن المعبد الذي ساعده في التنكر بزي كاهن ـ راهب عجوز اشتهر "بالمعجزات" في علاجه للفلاحين. بانتظار أن يجمع ما يكفي من المال كي يهرب خارج البلاد عن طريق هونغ كونغ أو تايوان أو روسيا مع من اختارها قلبه.
يستعيد الفصل الثاني من الرواية مشاهد التعذيب الوحشي الذي تعرضت له أسرة البطلة من قبل جنود الجيش الأحمر وقائدهم، أثناء حكم ماو. التعذيب الذي لا يملك الأب في مواجهته سوى الصبر: "نحن الصينيون لدينا تراثا من الصبر، طويل بعمر 5 آلاف سنة، اكتسبناه تحت جور الأباطرة واليوم تحت سلطة ماو. حتى أني أندهش كيف أن شعبنا لا يولد محني الظهر!".
في ثورة ماو الثقافية كان تطهير الطبقات الاجتماعية قاسيا جدا. جاء في الرواية على لسان النقيب الذي عذب الأسرة، أن "تينغ هسياو بينغ" قال يوما: "تطلبت هذه المرحلة التضحية بمئة مليون ميت فقط على عدد سكان مليار صيني! اعترف يا معلم المدرسة: كنا إنسانيون جدا".
المضحك ـ المبكي أن الجلاد نفسه سرعان ما يصبح ضحية في هذه الأنظمة؛ فبعد موت ماو تسي تونغ وبعد انتهاء "حكم الأربعة"، يُضطهَد الذين مارسوا الاضطهاد وينكَّل بعم. من هنا يصعب التعرف على هذا النقيب حين يعود إلى القرية. فقد بدا عجوزا مشوها ويمشي بصعوبة. فبعد مرحلة ماو تعرض هو نفسه للتعذيب، وأحرق وجهه وشوّه بأعقاب السجائر وكسرت أعضاءه، من قبل نفس الجنود الذين كانوا بإمرته. هذا النقيب الذي لا يعرف عدد الجثث التي تركها خلفه؛ يعتقد في خبيئته وبحسب معاييره الشخصية، أنه خدم النظام بأمانة، وكوفئ بتلك الطريقة!
إذ يبدو أننا "لا نعرف ماذا يمكن للشعب أن يقوم به عندما يدفع نحو الجنون. يكفي رجلا واحدا كماو حتى تجد أمة بأكملها نفسها تحت الأنقاض".
تشير حنة أراندت في كتابها "أسس التوتاليتارية" (The Origins of Totalitarianism)، أنه إذا كانت جميع المجموعات السياسية تتمتع بقوة نسبية؛ فإن الحركات التوتاليتارية تعتمد على قوة العدد وحدها، إلى درجة أن التوتاليتارية تبدو مستحيلة، حتى في ظروف ملائمة، في البلدان ذات أعداد السكان القليلة. ذلك أن إرساء التوتاليتارية يتطلب القضاء على أعداد كبيرة من السكان، لتخويفهم ومنعهم من التمرد. إذن يجب أن تكون الحشود متوفرة كي يمكن استعمالها دون الوصول إلى القضاء على السكان بشكل كارثي؛ ليصبح ممكنا أن يتحكم النظام التوتاليتاري، المتميز عن الدكتاتورية.
وأعداد السكان الهائلة في الصين تسمح للبعض، كوالد بطل الرواية، بالتنظير لتبرير الاستبداد: "الحرية لا يمكن تطبيقها في الصين. عدد السكان، مليار، ويحتاجون إلى حكم بيد حازمة، تصور مليار حرية!".
ما هي الحرية التي حلم بها الشباب الصيني الذي تم سحقه في تيانامين؟ الحرية التي يخشى شباب هونغ كونغ المتظاهرون اليوم أن يحرموا منها؟ إنها على لسان البطل: أن يتمكن من شراء تذكرة سفر إلى لندن أو روما، دون أن يطلب إذن "وحدةـ unite" المحلة أو الحي الذي يقطنه، وكي لا يقاتل للحصول على الإذن بترك البلاد. الحرية هي أن يكون لديك جواز سفر، وأن تتمكن من أن تغير مهنتك كما تريد أو تسكن أينما يحلو لك. الحرية هي أن لا يكون هناك "وحدة" تقرر عن البشر وتمتلك حياتهم في أمكنتهم وتراقبهم في نفس الوقت.
ففي الصين، إذا رغبت بترك شنغهاي مثلا إلى بكين، لن تجد عملا بذريعة أنك لا تنتمي إلى وحدة. ولذا فأنت غير موجود عمليا. وعندما لا تنتمي إلى وحدة لن تتمتع بأي حماية اجتماعية. لا أحد يعتني بك ولا تحصل على بطاقة غذاء لتتمكن من شراء الطعام الأساسي المدعوم من الحكومة. تعتبر كأنك حي ـ ميت؛ بكل بساطة لأن الوحدة هي التي تعطيك الحق بموقع الكائن الإنساني؛ تماما كجواز السفر.
ربما يأتي يوم، إذا هيمنت الصين على العالم، ينضبط فيه الجميع في "وحدات" خاضعة للمراقبة عن كثب بواسطة الذكاء الاصطناعي والكاميرات التي تصور عبر الحيطان والهواتف الذكية التي تبث كل حركة نقوم بها والشرائح الدقيقة المزروعة في مؤخرة الرؤوس.
فهل يأتي يوم نترحم فيه على "الإمبريالية الأميركية!".
اقرأ للكاتبة أيضا: طرابلس المدينة المتهمة!
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).