في وقائع موت الرئيس المصري السابق محمد مرسي، تصبح الكتابة مثل المشي في حقل ألغام، فالعالم العربي ـ بعمومه وليس كله ـ منقسم بين فريقين: فريق يرى في الرئيس الراحل بطلا وشهيدا وأنه ضحية اغتيال أمني وتصفية جسدية ممنهجة، وفريق يرى فيه خائنا بحكم أنه من رموز الإسلام السياسي ومن قيادات جماعة الإخوان المسلمين، فأسقط خصومته مع هذا التيار على الرجل الذي أوصلته صناديق الاقتراع المصرية بعد ثورة كانون الثاني/يناير إلى سدة الرئاسة.
وما دمت قد قررت الخوض في الكتابة والمشي في حقل الألغام شديد الحساسية، فإنني أعلن أولا أسفي على رحيل الرئيس محمد مرسي بهذه الطريقة اللاإنسانية سواء في محاكمته أو في ظروف اعتقاله المنتهكة لكل قواعد الإنسانية، كما وأؤكد كما كنت أؤكد دوما أني لا أرى في تيار الإخوان المسلمين وكل حركات الإسلام السياسي قاطبة إلا بؤر تجهيل وعتمة وأحد أكبر معوقات النهوض بالعالم العربي من خيباته التي لا يزال مرهونا ومرتهنا لها وفيها.
نعم، الرئيس الراحل ـ غفر الله له ذنوبه ـ كان أول رئيس منتخب فعليا ولأول مرة في تاريخ مصر كلها منذ الفراعنة؛ لكن حتى لا نقع في فخ التضليل للعبة الانتخابية المزعومة يجب علينا أن ندرك أولا أن القاعدة الشعبية التي أوصلت ممثل الإخوان المسلمين إلى الحكم لم تكن فعليا ممثلة للشعب المصري، وندرك قبل كل شيء أن المصريين مثل غالبية الشعوب العربية، تعرض وعيهم الذي انتخب محمد مرسي بمن صوتوا له، للتزوير وهو تزوير أخطر وأعمق بكثير من تزوير أوراق الاقتراع بالطريقة الكلاسيكية الأمنية القديمة، وهذا الوعي المزور، كان من السهل بعد تزويره أن يتعرض لعملية تشويه تمسخه تماما بعد مرحلة محمد مرسي، لينتهي المصريون بعد انقلاب واضح إلى مرحلة الرئيس الأوحد والمستبد، الملهم والمحبوب بالغصب، لكن وهذا الأهم فهو الرئيس المسلح بكل ما يمكن تخيله من عسكرتاريا وقوة بوليسية، وتدخل مصر "مصر كلها" بمرحلة المهزلة غير المسبوقة تاريخيا في كل شيء.
المهزلة يتوجها ويعنونها الإعلام المصري المسموع والمقروء والمتلفز، في تداعيات رحيل الرئيس مرسي، وتستمر عمليات مسخ الوعي المصري وتشويهه بذات مدرسة الصراخ والشتم والردح المتواصل من قبل رداحي الماكينة الإعلامية.. وهم ذاتهم الرداحون في كل المراحل التي سبقت السيسي نفسه.
وهو الإعلام نفسه، الذي كان بعض من فيه من معارضين للرئيس محمد مرسي لديهم سقف حرية واسع بانتقاده والنيل منه بسخرية والتعليق على زلاته (وما أكثرها في ذلك الوقت) في برامج حوارية ومقالات صحفية ورسوم كاريكاتير، لكنه الإعلام نفسه بكل من فيه اليوم لا يستطيع أن يعلق لو بإشارة على زلة من زلات الرئيس عبد الفتاح السيسي (وما أكثرها أيضا)، بل ويعمل على تخوين وتكفير أي معارض للسيسي بكل ما يملك من ذخيرة شتم حية.
♦♦♦
وجد رداحو الإخوان في موت الرئيس محمد مرسي بتلك الطريقة فرصة ثمينة للصيد في مياه هي فعلا عكرة، وتصاعدت المبالغات في رحيل الرجل مبلغا وصل إلى تقديسه وتنزيهه بمخاطبة سهلة لعواطف المصريين والعرب؛ فلا تجد مفارقة بأن ترى نفس الذي يرى في طاغية مثل صدام حسين بطلا عكس القمر وجهه ذات خيبة، هو نفسه من يرى في محمد مرسي شهيدا وبطلا تاريخيا برتبة الإمام الغائب، وبقليل من التفكير يمكن أن نتخيل ماذا كان يمكن أن يفعل صدام حسين بالرجل لو كان محمد مرسي من جماعة الإخوان في العراق، لكن المفارقة بدون أن نتخيلها تتحقق على يد اليمنية الحائزة على نوبل (والجائزة كلها صارت معرضة للسخرية هنا) توكل كرمان حين نعت مرسي بقصيدة "قتلناك يا آخر الأنبياء" للراحل الكبير نزار قباني، فالمفارقة ليست بتنصيب مرسي نبيا، بل بالقصيدة نفسها التي كتبها نزار في نعيه للرئيس جمال عبدالناصر، واضع حجر الأساس لحكم العسكر وصاحب أول عمليات تصفية لجماعة الإخوان المسلمين!
♦♦♦
المفاضلات ظالمة هنا، وغير عادلة ومضللة ببشاعة، فمصر أكبر من أن يحكمها تيار إسلامي إقصائي منغلق حتى أن الرئيس الراحل مرسي نفسه ألقى خطابا احتقر في مضامينه الدستور واستدعى حكم الشريعة الإسلامية برؤى سيد قطب، وغيره من جماعات وفقهاء الإقصاء والإلغاء، فلك أن تتخيل لو استمر حكم الإخوان في مصر بتلك الرؤية، إلى أي مصير كان يمكن أن ينتهي.
ومصر أيضا أكبر من أن تبقى دوما تحت سيطرة العسكرتاريا وقد انفلتت شهوتهم للسلطة أكثر بعد ثورة كانون الثاني/يناير فتجلى ظهورهم بالرئيس الحالي الذي اختطف السلطة واغتال الثورة ووضع الديمقراطية في الاعتقال الانفرادي، وقد بلغت السجون في عهده أكثر من ستين سجنا، وعشرات مقار الاحتجاز، إضافة للمعتقلات السرية والخاصة بالأجهزة الأمنية التي لا تعتبر أن للإنسان ـ أي إنسان ـ حقوقا ولو بالحد الأدنى.
♦♦♦
وفي المحصلة..
وفاة الرئيس السابق محمد مرسي بتلك الطريقة التراجيدية وجدت صداها في العالم، وهذا طبيعي لأن الرجل كان رئيسا لمصر (بعيدا عن سقطات الصحافة المصرية التي وضعت خبر موته صغيرا في صفحات الحوادث)، لكن الموجع فعلا هو كل هؤلاء الذين يتعذبون ويقضون في كل تلك السجون الأمنية، لا من الإخوان وحسب، بل من كل الفئات والطبقات والمستويات، ولم يسمع عنهم أحد، ولن يسمع عنهم أحد في ظل كل هذا النفاق الدولي المتشابك، نفاق تم تقييد ذمته على حسابات الصراع بين الكاز والغاز.
اقرأ للكاتب أيضا: وقائع جنازة الأرنب
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).