يافع كُردي من ناحية شيراوا التابعة لبلدة عفرين، يجلس على أطلال حقول أشجار الزيتون التي التهمتها النيران، تلك التي زرعها أجداده منذ مئات الأعوام، يتأمل المأساة المُحيطة به من كُل حدب، يتألم للرقم الصاعق الذي أصدره مركز توثيق الانتهاكات في الشمال السوري: "منذ سيطرة تركيا وفصائلها السورية المسلحة على منطقة عفرين في آذار/مارس 2018 تعرض ما يقارب 11 ألف هكتار من أصل 33 ألف هكتار من الغابات الصناعية والطبيعية للقطع والحرق، في قرى عفرين".
يقلب اليافع الكُردي، الذي شارك يوما في الثورة السورية بكل وجدانه، واعتبرها حلمه وتطلع المستقبلي الأكثر وضوحا، يقلب تفاصيل مأساة أجداده، التي لا تقل فظاعة عن أحوال ثلث غابات الزيتون العفريني، التي حُرقت بدم بارد.
فيرى بلدات عفرين سُلمت لمئات العصابات المُسلحة، التي تعيس فيها فسادا من كل حدب، تنهب المؤسسات العامة والمصالح الاقتصادي وتستولي على بيوت الأهالي في تلك المناطق، تختطف يوميا العشرات من المدنيين، وتبتز أهاليهم بمبالغ خيالية، يطرون لتأمينها بيع كل ما امتلكوه طوال أعمارهم، وفي مرات غير قليلة يقترفون جرائم مروعة بحق المُختطفين، كان آخرها اغتيال الطفل المُختطف محمد رشيد لطيف، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، بعدما لم تتمكن عائلته من تأمين مبلغ الفدية ـ مئة ألف دولار ـ التي طلبها الخاطفون لإطلاق سراحه.
لا أمل لهذا اليافع بأن يتغير أي شيء من أحوال ذويه ومنطقته في الأفق المنظور. فمثل تلك الجرائم تجري بشكل معلن ومتواتر منذ قرابة العام ونصف العام وحتى الآن، دون أية متابعة أو مقاضاة أو مساءلة، وحتى دون أن تخشى قوى الحكم العصاباتية أية تبعات لأفعالها.
المشهد العام يبدو واضحا: الجيش التركي الذي غزا واحتل المنطقة منذ عام ونصف، سلم أمرها وأمر ذويها إلى تلك العصابات، لتنفذ هذه الأخيرة برنامجا متكاملا لترويع السكان المحليين الكرد، وإحداث تغيير ديموغرافي وثقافي في تلك المنطقة، بحيث يقوم النفوذ السياسي والعسكري التركي بحماية هذه العصابات من أية ضغوط أو تبعات جراء أفعالهم، سواء من المنظمات العالمية أو دولهم.
♦♦♦
يسأل اليافع نفسه عن الأسباب التي دفعت هؤلاء لأن يفعلوا ما يفعلوه بعفرين، بالذات الذين كانوا معه يوما في خندق الثورة، حينما حلموا بأن ينتهي النظام الديكتاتوري ويبنوا سوية نظاما ديمقراطيا مدنيا!
لا يعطي اعتبارا لتلك التفسيرات الخطابية المسطحة، التي تقول "لا يمثل هؤلاء الثورة السورية". إذا كيف لا يمثلون الثورة وهم آلاف الأفراد الذين كانوا يوميا مشاركين في فاعليات الثورة السورية، ما لبسوا أن حملوا السلاح دفاعا عن النفس، في مواجهة آلة القتل التي واجه بها النظام السوري هذه الثورة. ما لبسوا أن أسسوا عشرات التنظيمات والكتائب المسلحة، التي خاضت مئات المعارك ضد النظام السوري. وهذه العصابات كانت الجهة الوحيدة التي صارت تحمل لواء قضية السوريين المركبة، في مواجهة النظام والتنظيمات الإسلامية المتطرفة مثل داعش، وحملت مظلومية السوريين في وجه القوى الدولية التي شاركت النظام في جرائمه، أو غضت النظر عنه. فإن لم يكن هؤلاء يمثلون الثورة السورية، فمن يمثلها إذا؟!
ثم أليست هذه الكتائب هي الجناح والجهة العسكرية التي يفتخر الائتلاف الوطني المعارض بأنها جهده وجناحه المسلح، الائتلاف الذي يسعى جاهدا لاحتكار قضية السوريين وثورتهم بذاته، يفاوض النظام السوري على مستقبل البلاد وأهله، هو الراعي السياسي لعملية الغزو التي جرت، وهو تاليا المظلة السياسية والرمزية لهذه العصابات. هل من أحد يمثل الثورة السورية مثل هؤلاء الذين برعاية ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية؟!
من طرف آخر، لا يقبل هذا اليافع العفريني فكرة أن هذه السلوكيات هي "رد فعل" على سلوكيات وحدات حماية الشعب الكردية، التي يقول المعارضون السوريون إنها لم تقف إلى جانب الثورة السورية، وعقدت توافقات مع النظام السوري.
يقول اليافع لنفسه: لو كانت المسألة حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، فإن هذه الأخيرة "انهزمت" وصارت خارج إقليم عفرين. فلماذا كل هذه الكراهية والأعمال الإجرامية بحق القواعد الاجتماعية الكردية؟! لماذا هذا التلهف لتحطيم كل أشكال الحياة العامة للناس العاديين، الاقتصادية والأمنية والاجتماعية؟ ولماذا يستميتون في فرض نمط من الحياة العامة التي ليس لها إرث وعمق في ثقافة سُكان المنطقة، بالذات تلك الأنماط الحياتية شديدة المحافظة والذكورية؟ لماذا، مثلا، ألغى هؤلاء المُحتلون تدريس اللغة الكُردية؟!؛ وفرضوا اللغة التركية على عشرات الآلاف من الطلبة الذين ليس لهم أية علاقة بها؟ ولماذا هذا التهافت على تحطيم الرموز الثقافية والتاريخية الكردية، حيث بدأ المحتلون سيرة حكمهم بتحطيم تمثال كاوا الحداد وسط مدينة عفرين، رمز الحرية الأكثر رسوخا في الذاكرة الجمعية الكردية؟
هل كل هذا مناهضة سياسية وعسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي وأجنحته العسكرية؟! أم هي مناهضة أيديولوجية، ذات وجه فاشي واضح، مناهضة للكرد، في هويتهم وجغرافيتهم ووجودهم الديموغرافي؟
♦♦♦
يفكر اليافع العفريني بالأحوال والمناخات التي خلقت هذه النزعات العنصرية المناهضة للكرد في ذوات هؤلاء المقاتلين السوريين، هذه النزعات التي ما كان المجتمع السوري حافلا بها حتى قبل سنوات قليلة.
يفكر من جهة بآثار العنف والتحطيم الوحشية التي مورست بحق كل السوريين، والتي أخرجت من قرارة معظمهم أفظع أشكال العدمية الإنسانية، التي ليس للأخلاقيات الآدمية وقيم العيش المُشترك وتراث المنجزات الإنسانية في احترام الحُرمات المدنية، ليس لها أية قيمة في تلك العدمية الفتاكة، بروح ومنطق حاملها أولا.
يتخيل آليات الحرب وفظاعاتها، بالذات تحولها من قضية إلى مصدر رزق وآلية صعود مالية ومجتمعية، تحول الحرب ومتطلباتها من لحظة استثنائية وخاصة، إلى شكل الحياة الدائمة، وما تخلقه تلك الآلية من تحويل القضايا والخلافات السياسية، إلى مزيج مريع من الكراهية والصراعات الهوياتية.
يأخذ اليافع نفسا، ثم يتذكر تأثر هؤلاء المقاتلين السوريين بالخطابات القومية التركية والإسلامية السورية التي في ظلالها، التي تفوق ما كان يحمله البعث من تراث وخطاب فاشي تجاه الجماعات القومية والثقافية غير المنضوية في ظلال معتقداته.
طوال قرن كامل عاش الكُرد في الدولة السورية الحديثة، مورست ضدهم كافة أشكال الاضطهاد والتمييز، لكنهم فقط في ظلال الثورة السورية ورعاتها الرمزيين والسياسيين شهدوا جلافة أن تحرق ثلث مساحات أشجار الزيتون التي زرعها أجدادهم وحرسوها لقرون، ودون أي مبرر ومقصد سياسي، خلا التحطيم الجمعي لهذه الجماعة. وفي ظلال الثورة أيضا شاهدوا شيخا متعصبا مثل العرعور يهدد شعبا كاملا علانية، وبكل فجور، وحتى قبل أن يتمكن من الاستحواذ على السلطة، وعشرات الآلاف من أبناء هذه الثورة يهللون له ويعتبرونه رمزا.
يفكر اليافع بتراجيديا أجداده الكُرد في مختلف دول المنطقة، الذين شاركوا باقي شعوب المنطقة وناصروا قادة كل ثوراتهم وهباتهم التي حدثت طوال قرن كامل. من أتاتورك وحروبه الاستقلالية، مرورا بالإسلاميين واليساريين الأتراك، من عبد الكريم قاسم إلى القوى الشيعية العراقية مرورا بانقلابي البعث الشهيرين في العراق، من الثورة المشروطية الدستورية الإيرانية في أوائل القرن المنصرم وصولا للثورة المناهضة للشاه مرورا بثورة مُصدق، طوال هذه الأحداث والعقود، كان الثوريون المنتصرون، شركاء الكُرد في الأمس، يلتفتون للانقلاب عليهم والفتك بهم.
يصيب اليأس قلبه في التفكير في كل ذلك، لا يلاقي مخرجا سوى بإعادة زرع ما تُلف من الزيتون، وهي البهجة التي تحفظ فيه رمق الحياة، منذ مئات السنين وحتى الآن، وستبقى.
اقرأ للكاتب أيضا: البعث ما يزال 'يُحطم' السُنة العراقيين
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).