لا تدرك الأجيال الجديدة مدى التغير العميق الذي عاشه العالم خلال الخمس وعشرين سنة الأخيرة بعد الثورة الرقمية والإنترنت والموبايل، ولا يدركون أن الحياة التي نعيشها اليوم كانت في أول التسعينيات الميلادية (أي قبل ثلاثة عقود فقط) شيئا أقرب إلى الخيال العلمي بالنسبة للناس حينذاك.
لما بدأت خيوط فجر الإنترنت تظهر للناس في عام 1991، بدأ الباحثون والحالمون يفكرون بأثر هذه النقلة الأكبر من نوعها ربما في تاريخ الإنسانية كله على كافة أوجه حياتنا. كانوا يحلمون ويخططون ويتأملون في مستقبل، سرعان ما أقبل على الإنسانية وصرنا نعيشه في تغير سريع لا يختلف عن قطار ينطلق بأقصى قوته من محطة مثيرة إلى محطة أكثر إثارة.
نحن نعيش اليوم في ذلك المستقبل، وفي نفس الوقت نسمع عن تلك التغيرات الضخمة التي تنتظرها حياتنا مع القادمين الجدد: الذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، الروبوتات، المركبات ذاتية القيادة، الطابعات ثلاثية الأبعاد، البيانات الضخمة، تقنيات الواقع الافتراضي، وغيرها كثير، وكلها مجتمعة تخلق مستقبلا جديدا مختلفا عن عالمنا اليوم، وسيؤثر بعمق على كافة جوانب حياتنا وكل قطاعات الاقتصاد، بشكل لا يمكن إلا أن يتركنا مذهولين عندما ندخل في تفاصيله. الصحة والتعليم والاقتصاد عموما والجيوش العسكرية والصناعة وحتى الأنظمة السياسية ستنقلب رأسا على عقب في العقود الثلاثة القادمة.
لكن هناك فرق جذري بين التجربة القادمة والتجربة التي عشناها في التسعينيات، حين بدأ كل شيء مع انطلاق "شبكة الإنترنت World Wide Web"وبين زمننا هذا حيث نعيش التطور تدريجيا وبشكل مستمر. في كل يوم، هناك تطور جديد في عالم الذكاء الاصطناعي، وأخبار تُنشر عن الروبوتات، واحتفال بإنجازات جديدة لشركات إنترنت الأشياء أو شركات الطاقة البديلة.
نحن نعيش حاليا في عالم تحكمه شركات تقنية عملاقة، استقطبت أفضل العقول والمواهب، ولديها ميزانيات غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية، وكم من البيانات المتراكمة التي يصعب حتى وصف ضخامتها وتعقيدها لغير المتخصصين.
المنافسة تمضي حاليا بسرعة هائلة بين الشركات، بينما الإنسانية تقرأ وتتفرج وتندهش حول متغيرات المستقبل القادم، تسعد بالإيجابي منه، وتتجاهل الأخطار وكأنها لن تأتي فعلا. نحن نعيش في رواية خيال علمي تتحقق أجزائها تدريجيا أمام أعيننا رغم انشغالنا بحياتنا اليومية، أو بشكل أصح: نحن نعيش المستقبل دون أن نراه.
بالنسبة للشركات والحكومات التي تدعمها، نحن لسنا في رحلة اختراعات للتسلية وتطوير حياة الإنسانية، بينما هي معركة حياة وموت، لأن المتخصصين والمستثمرين ومن ورائهم قادة السياسة والاقتصاد يعرفون أن من يحسم تفاصيل هذه الرحلة اليوم، سيمتلك المستقبل، ويسيطر عليه.
هذه المعركة، التي تدور في الغرف المغلقة، ظهرت فجأة للعلن مع قضية هواوي والجيل الخامس للإنترنت، وهي القضية التي فتحت أعين الناس على هذا التداخل المخيف بين التكنولوجيا والأمن والسياسة والاقتصاد. مستقبلنا مستقبل مختلف، تنطلق خيوطه كلها من مركز واحد، كما هي شبكة العنكبوت تماما.
بدأت في كتابة عمودي الصحفي الأسبوعي في عام 1996، وكنت حينها أكتب باندهاش ولذة عن العالم الرقمي وتطوراته، والإنترنت ومغامراتها، والشبكات الاجتماعية وسحرها، وكنت أشعر بنشوة خاصة وأنا أرى ما أكتب عنه يتحقق بعد حين، أو عندما ألمس تفاعل الحالمين معي من القراء العرب، الذين يكرمونني دائما بتفاعلهم وثنائهم وأحيانا نقدهم وملاحظاتهم. توقفت عن الكتابة في 2016 أي بعد 20 سنة تماما لأنني شعرت أن المستقبل قد وصل وصار هناك متخصصون في كل تفاصيله. اليوم أعود للكتابة مع "الحرة" لأكتب عن المستقبل الجديد، ويدي على قلبي يحيط بي الخوف كما يحيط بي الأمل، لأنني صرت مؤمنا أن المستقبل الجديد سيأتي سريعا، ولن تكون الصورة جميلة ومشرقة، وسيكون أمام البشرية تحديات غير مسبوقة وهم يعالجون مشكلاتهم السابقة بالتكنولوجيا.
لماذا المستقبل؟ ببساطة لأننا حين نفكر في التطورات القادمة وندرس آثارها المحتملة ونحلل تفاعلاتها الاجتماعية والإنسانية، فإننا قد نجد الطريق لتفادي كثير من الأخطار التي قد تحيق بنا. في الأفلام التي تحكي عن "آلة الزمن"، يأتي رجل من المستقبل ليغير شيئا من الماضي حتى يعيد تشكيل المستقبل. نحن نعيش القصة نفسها الآن مع تغيير طفيف، نحن نستطيع تخيل المستقبل تماما، ونملك في الحاضر أن نتلاعب ببعض الأحداث والتطورات، حتى نملك مستقبلا أجمل لنا ولأبنائنا والأجيال التي من بعدنا.
العيش في المستقبل يشبه تماما العيش على سطح القمر، خيال جميل، آفاق لا محدودة، مغامرات يرتفع معها الأدرينالين في أدمغتنا، ولكنها تجارب تتحقق بالكثير من التكنولوجيا والعبقرية. نرى فيها حلولا لمشكلات الأرض اليوم، ولكنها قد تأتي بمشكلات مرعبة جديدة كتلك التي نشاهدها في أفلام الفضاء.
وعلى كل حال، إذا كنت لا تحب الحاضر، فأهلا بك في المستقبل!..