تمر عليهن أشكال وأنواع من السيدات، يدخلن أفواجا وهن يتسامرن حول قصة ما، يقفن أمام المرآة ويخرجن أدوات زينة معقدة مذهلة التأثير
تمر عليهن أشكال وأنواع من السيدات، يدخلن أفواجا وهن يتسامرن حول قصة ما، يقفن أمام المرآة ويخرجن أدوات زينة معقدة مذهلة التأثير

د. ابتهال الخطيب/

تدور بسرعة كبيرة في محيطها، تمسح البقع هنا وترش المواد المطهرة هناك، تخطو خطوات قصيرة سريعة خلف السيدات الخارجات من المكان يحملن أكياسهن المثقلة بمتع التسوق عل أحدهن تمد كفها ببواق تسوقها.

أحيانا كثيرة يحالفها الحظ، فتتحصل على قطع نقدية قليلة أو حتى ورقة نقدية كاملة، لتدسها بسرعة وخبرة في جيبها الرمادي الأمامي، لتعود لدورانها السريع المذهل ولارتداء ابتسامتها البسيطة المغتصبة؛ المغتصبة من عمق آلام الدنيا وهمومها وأحمالها. تعيش أيامها في هذا الحيز، الذي مهما اتسع لا بد أن يضيق بالنفس البشرية، حيز أحيانا يكون فاخر الفرش الرخامي أو متواضع التبليط السيراميكي، تصطف فيه المراحيض لتقضي صاحبات الحظ الأفضل حاجاتهن الطبيعية فيه، ولتنظف هي بعدهن المكان في صورة من أبلغ صور الحياة وأكثرها مباشرة: الميسورون تتيسر أمورهم، والفقراء ينظفون بقايا الأمور، الميسورون يتخففون والفقراء يثقلون بمخلفاتهم، إنها الحياة التي لا عدالة فيها.

لا يشعر الإنسان العربي بامتلاكه المساحة العامة من بلده، كل ما يملكه هو حيز بيته

​​أفكر فيهن كثيرا هؤلاء العاملات في الحمامات العمومية (لا أدري عن وضع، ولا أشمل، الحمامات الرجالية) اللواتي يقضين اليوم كله على كرسي بلاستيكي في أحد زوايا هذه الغرفة التي لا بد وأن تكون، مهما تعاظم تنظيفها وتطهيرها، ملجأ للبكتيريا والجراثيم.

دقيقة بعد دقيقة؛ ساعة بعد ساعة؛ تغيب شمس وتظهر شمس؛ يوم بعد يوم؛ وهن في هذه الغرف السيراميكية الباهتة، تمر عليهن أشكال وأنواع من السيدات، يدخلن أفواجا وهن يتسامرن حول قصة ما، يقفن أمام المرآة ويخرجن أدوات زينة معقدة مذهلة التأثير؛ هذه تبدل ثياب طفلتها وتلك تتحدث على هاتفها ثوان أو دقائق ليغادرن مخلفات روائح عطرة في الواقع، تتضارب في معناها ومغزاها مع المساحة وهدفها.

عديدات تدخلن وتخرجن، تمررن بسرعة على "العاملة الرمادية"، التي كثيرا ما يوحدها "يونيفورمها" وملامحها ووظيفتها مع زميلاتها، تبدو كلهن امرأة واحدة مكررة، تتوزع نسخها على هذه الغرف الموحشة المعزولة، حتى ننسى أنهن سيدات عدة بقصص عدة وحيوات عدة، الفرق بيننا وبينهن: ضربة حظ.

الحق أقول إن معظم المستخدمات لدورات المياه، الحديث هنا عن عالمنا العربي تحديدا، في الغالب يكن لطيفات، يمددن الأيادي بما يتيسر من قطع نقدية، أحيانا يعطين العاملة بقية وجبة أو علبة عصير. للحظات قصيرة، نتذكر آدميتهن، ثم نخرج لفساحة الخارج فننشغل بهمومنا واهتماماتنا، وننساهن، وينساهن الزمن كذلك هناك على أطراف المغاسل وفوق رؤوس المراحيض، لا يتغير بهن حال، لا ينصفهن زمن.

إلا أن الإحسان، بشكليه النفسي والفعلي، ليس هو المشكلة تحديدا، التعاطف عندنا في عالمنا العربي ولا أروع أو أدفئ منه، لكنه مؤقت، سريع الذوبان، سرعان ما ننسى مستحقيه بضغوط أعمالنا وهمومنا الشخصية وإيماننا الذي لا يمكن إنكاره بالتمايز الطبقي. تعاطفنا شاعري لكنه غير منطقي، فنحن نتعامل مع الأعراض لا المرض، من خلال مشاعرنا لا بالتدخل الجراحي المطلوب، بإيمان أن "الناس طبقات" لا "كأسنان المشط".

نعامل الشوارع بقسوة والأماكن العامة بفظاظة والمرافق المتاحة بشيء من الاستغلال، فتلك ليست لنا

​​حين كتبت أشير لهذه الظاهرة على حسابي على موقع تويتر، أشارت إحدى المغردات إلى غيابها في الدول الغربية والشرق آسيوية، حيث لا توجد عاملات مقيمات في دورات المياه (لربما إلا في الأماكن الفاخرة المخملية كما أشار مغرد آخر). هناك توجد أوقات محددة للتنظيف تأتي فيها العاملة لتنهي مهمتها وتغادر، وتكون مهمة إبقاء المساحة نظيفة على مدار اليوم هي للمستخدمات لهذه المساحة، وهي مهمة يأخذنها عادة على أعتاقهن بكل أخلاقية وشعور بالواجب وبخالص الرضا والالتزام.

في خارج الشرق الأوسط، وعلى الأغلب وبلا تعميم، لا تترك المستخدمات بقايا المناديل الورقية على المغاسل، لا يرمين مخلفاتهن وقد تدلى نصفها خارج أكياس القمامة، والأهم، لا يغرقن المكان بالمياه اعتقادا منهن أنهن يطهرن المساحة استعدادا لاستعمالها، وتلك هي المشكلة الأكبر والأثقل بالنسبة لهؤلاء العاملات؛ فبخلاف أن في ذلك إهدار شديد للمياه، يغرق هذا التصرف المساحة كاملة بمياه غير نظيفة في الغالب، وينهك العاملة بضرورة تنشيفها بعد كل مستخدمة حتى تستطيع تاليتها استخدام ذات المساحة.

في الغرب وأقصى الشرق، كثير من الحمامات العامة تكون بمبالغ مالية كذلك، تدفع باوند أو إثنين مثلا لدخول الحمام، هذا الإجراء أولا يوفر أجرة عاملة (أو عامل) التنظيف التي تأتي في ساعات محددة لإتمام عملها، وثانيا يشعر المستخدمة بملكيتها المؤقتة للمساحة، بمسؤوليتها تجاهها، وعليه بضرورة إبقائها على نظافتها احتراما للمستخدمة القادمة التي ستدفع لذات الخدمة التي تمتعت هي للتو بها.

لو أننا تملكنا بلداننا، كنا سنحرص على جمالها ونظافتها

​​الاستخدام العشوائي المهمل لدورات المياه العمومية اعتمادا على هذه المقيمة فيه ليل نهار هو انعكاس جلي لفلسفتنا في الحياة ليس فقط من حيث ترسخ الشعور بالطبقية وقبول مثل هذه المشاهد على أنها طبيعية، ولكن كذلك من حيث ترسخ شعور أن العام ليس ملكنا، أن الحيز الخارجي من بلداننا لا ينتمي لنا، فترانا نعامل الشوارع بقسوة والأماكن العامة بفظاظة والمرافق المتاحة بشيء من الاستغلال، فتلك ليست لنا، نستهلكها قدر ما نستطيع ونتركها لملاكها يصلحونها.

هذه الجزئية، تعكس ظاهرة خطرة لعدم شعور الإنسان العربي بامتلاكه المساحة العامة من بلده، كل ما يملكه هو حيز بيته، أما خارجه فهو ليس له، بلده بشوارعه ومرافقه لا يخصه، وهذا الشعور بالانفصال هو أخطر وأمرّ ما يحكم علاقة الإنسان العربي بأرضه. لو أننا تملكنا بلداننا، كنا سنحرص على جمالها ونظافتها، ولو أننا حرصنا، كنا سنستخدم طاقات العاملات في أعمال أجدى نفعا، أكثر إنسانية، وأقل قمعا نفسيا ومعنويا، ولو أننا فعلنا، كنا ساهمنا في تعديل كفة الحياة الباردة الظالمة ولو بأقل القليل، كنا سنكون أفضل.

اقرأ للكاتبة أيضا: لست أدري

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.