قائد الحرس الثوري الإيراني السابق محمد علي جعفري أمام مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي
قائد الحرس الثوري الإيراني السابق محمد علي جعفري أمام مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي

إياد العنبر/

تأبى أخبار الحرب في منطقة الشرق الأوسط أن تغادر صدارة نشرات الأخبار، وكأنما العلاقة الوثيقة بين هذا المنطقة الجغرافية والحروب لا تقبل الانفصال. فهي إن لم تكن بعنوان حرب دولية أو إقليمية، تكون بعنوان حروب أهلية. ومنذ أشهر، تتصاعد خيارات الحرب بين أميركا وإيران، بين تهديد ووعيد. وكان آخرها حديث الرئيس دونالد ترامب عن قرار إلغاء توجيه ضربة عسكرية محدودة ومحددة ضد إيران قبل عشر دقائق من تنفيذها.

إذا خيارات الحرب، باتت تطرح بقوة هذه الأيام، ومن ثم، يجب إعادة قراءة المواقف السابقة التي كانت تشير إلى أن خيارات التفاوض يمكن أن تُنهي الأزمة، أو على الأقل تؤجل الصدام المسلح. فإيران مستمرة بإرسال رسائل التحدي، حتى في اللقاءات مع الوسطاء الدبلوماسيين. إذ صرح المرشد الأعلى علي خامنئي، خلال لقائه برئيس الوزراء الياباني "شينزو آبي"، "نعتقد أن مشاكلنا لا تحل من خلال التفاوض مع أميركا، ولن تقبل أي دولة حرة التفاوض تحت الضغط".

الصراع السياسي والاجتماعي الآن في الداخل الإيراني معقد ومركب

​​ويبقى السؤال الأهم: لو حدثت الحرب، أو وجهت أميركا ضربات عسكرية لأهداف إيرانية محددة، وبعيدا عن افتراضات ردود الفعل الإيرانية، ماذا سيغير ذلك في الداخل الإيراني؟

إذ يعد تصريح ترامب في زيارته الأخيرة لليابان، تطورا في مواقف الإدارة الأميركية تجاه النظام السياسي في إيران، إذ صرح ترامب، أن "إيران لديها الفرصة في أن تكون دولة عظيمة مع القيادة الحالية نفسها، نحن لا نسعى إلى تغيير النظام، أريد توضيح ذلك، نحن نسعى إلى عدم امتلاك إيران السلاح النووي". ورد خامنئي على ذلك التصريح: "مشكلتنا مع الأميركيين لا تتعلق بمسألة تغيير النظام؛ لأنهم يعجزون عنه... وعلى مدى أربعة عقود بذلوا جهودا حثيثة للنيل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية ولكنهم فشلوا". ووصف المرشد حديث ترامب بعدم نيته تغيير النظام بـ"الكذبة؛ لأنه إذا كان بإمكانه فعل ذلك، لفعل. لكنه لا يستطيع ذلك".

إذا، يدرك القادة الأميركيون والإيرانيون، أن خيار الحرب أو العمليات العسكرية ليس بمقدورها تغيير النظام السياسي الإيراني، كما حدث في أفغانستان والعراق. لكنّ، كلاهما يدرك أيضا، أن تشديد العقوبات الاقتصادية يمكن أن تزيد من تصدّع العلاقة بين المجتمع والنظام السياسي في إيران، إذا حفزت موجات الاحتجاج التي تظهر بين فترة وأخرى، ولعل آخرها كان في نهاية عام 2017. ومثلت الشعارات التي رفعها المحتجون مؤشرا إلى زحزحة في الشرعية السياسية للنظام القائم في إيران.

فالأيديولوجية الثورية في إيران، والتي يفترض بها أن توفير إطار للإجماع الوطني الذي يعبّر عنه أنطونيو غرامشي بـ"الهيمنة الإدراكية" التي يُمكن للدولة من خلالها أن تُحقق الهيمنة على المجتمع السياسي والتنظيم الاجتماعي، كونها تشكل مبادئ تتوافق عليها الجماهير، وتتقبلها على أنها أمر طبيعي ومعتاد، هذه الأيديولوجية لم تعد كما كانت في بداية تشكيل الجمهورية الإسلامية، فالشعارات التي يرفعها المتظاهرون بين فترة وأخرى، تعد مؤشرا على عدم الاستقرار السياسي في إيران، وتعبّر عن ضعف قدرة المؤسسات السياسية على الاستجابة للمطالب الشعبية.

التغيير في النظام السياسي الإيراني، لن يحدث بوجود خامنئي في قمة هرم السلطة

​​بيد أن الصراع السياسي والاجتماعي الآن في الداخل الإيراني معقد ومركب، هو صراع بين ما تبقى من قيادات الثورة الذي لا يزال يؤمن بشعاراتها وأيديولوجيتها، وجيل يهيمن على المؤسسات السياسية الإيرانية مرتبط بقيادات الثورة بتخادم المصالح، من جهة، وجيل من الشباب يعتقد بوجود فجوة بينه وبين النظام السياسي الحالي، ويصنفه البعض بالإصلاحيين، من جهة أخرى. لكن واقع الحال، يشير إلى أن شعارات الإصلاحيين التي تهتم بالحقوق والحريات لم تعد تلبي طموحه.

تنتمي إيران إلى دول الشرق الأوسط، ودول هذه المنطقة باتت تُجيد التعاطي مع حركات الاحتجاج الشعبي. وهذا ما يمهّد للسيناريو الأسوأ، وهو أن تستغل قيادات الحرس الثوري توجيه ضربه عسكرية أميركية لإيران، لتظهر للعلن سيطرتها على النظام السياسي في إيران، وترفع شعار الأنظمة الشمولية "لا صوت يعلو على صوت المعركة".

​​ومن ثم، لن يسمح الحرس الثوري الإيراني لأيّ حركة احتجاجية شعبية، مهما كانت دوافعها ومحفّزاتها، بأنْ تهدد شعارات الثورة، فحتّى الحراك الشعبي الإصلاحي الذي يمكن أن نعدّه أكثر الحركات الاحتجاجية سعة وابتعادا عن التدخلات الخارجية، لا يمكن أن يكتب له النجاح؛ وذلك لهيمنة الحرس الثوري على الأمن القومي والاستخبارات وأجهزة الاتصال، وحتّى شبكات التواصل الاجتماعي التي تُعد الوسيلة الرئيسة للتحشيد الجماهيري.

القوى التي تستجيب للتغيير ستكون من داخل بنية النظام الحالي

​​ومن ثم، التغيير في النظام السياسي الإيراني، لن يحدث بوجود خامنئي في قمة هرم السلطة. لكن بعد رحيله، قد يحدث وفق احتمالين: الأول، انقلاب داخلي ناعم يقوده الحرس الثوري الإيراني، لضمان بقاءه هيمنته على الدولة ومؤسساتها. والثاني قد يتم تحت ضغط الحراك الجماهيري، ولكنه لن يسهم بتغيير جذري، وإنما سيقتصر على تغيير في الشعارات الثورية والعناوين الأيديولوجية؛ لأن القوى التي تستجيب للتغيير ستكون من داخل بنية النظام الحالي، واستجابتها للتغيير ستكون لضمان بقاءها في السلطة بعناوين جديدة.

وبالنتيجة النهائية، إن حدث التغيير، قد ينتج تغييرا نسبيا في السلوك السياسي الخارجي الإيراني تجاه محيطها الإقليمي وفي سياساتها الدولية، وهو الغاية الرئيسة للقوى الإقليمية المتنافسة والمتصارعة مع إيران. بيد أنه سيتحقق وفق سياسة الصبر الاستراتيجي، وليس بفعل القوة المسلحة.

اقرأ للكاتب أيضا: الشخصنة لا المؤسساتية.. من يحكم علاقة بغداد بكردستان؟

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.