يرفع صورة مرسي بعد إقامة صلاة الغائب له في تركيا
يرفع صورة مرسي بعد إقامة صلاة الغائب له في تركيا

حسين عبدالحسين/

لم يستحق رئيس مصر الراحل محمد مرسي السجن، ولم يكن مبررا حبسه في ظروف سيئة وحرمانه الرعاية الصحية التي كان يحتاجها. مرسي مات مظلوما، ككثيرين في سجون الاستبداد حول العالم، من الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى، إلى إيران، ودول عربية، ودول في الأميركيتين الوسطى والجنوبية.

على أن مظلومية مرسي لا تلغي ظلامية "الإخوان المسلمين"، ولا تبرر رؤيتهم السياسية الإقصائية لكل من يعارضهم. كذلك، لا تبرر مظلومية مرسي الأساليب الملتوية والمخادعة التي يتبناها التنظيم لتحقيق حكم إسلامي بطريقة مرحلية، على طريقة النازية، أي عن طريق الاستيلاء على الحكم ديمقراطيا، ثم تقويضه رويدا رويدا، حتى إقامة دولة إسلامية قروسطوية. ومن لا يصدق خداع التنظيمات الإسلامية، ما عليه إلا النظر إلى إيران وتركيا.

لمرسي الرحمة وللسجناء السياسيين من "الإخوان" الحرية، فالمواجهة السياسية لا تستدعي عنفا ولا قمعا

​​لم تكن الثورة في إيران إسلامية، بل كانت ثورة متنوعة، برز فيها اليسار الإيراني العلماني، وفي صفوفه "حزب توده" الشيوعي، وهو ما أرعب الغرب، الذي سارع إلى مواجهة ما كان يعتقده مدا شيوعيا، بنفس الطريقة التي كان واجه بها الشيوعية في اليمن، وبعد اليمن في أفغانستان، فعاد رجل الدين روح الله الخميني من باريس، واستولى على الثورة تدريجيا، وصفى رموزها من غير الإسلاميين. وحتى يبعد الخميني عن نفسه شبهة العمالة للغرب ويتفوق على الشيوعيين الإيرانيين، أمر جماعته باجتياح السفارة الأميركية واعتقال ديبلوماسييها، وهي الانعطافة التي أدت إلى ثأر، ما زال قائما بين إيران وأميركا حتى اليوم.

في تركيا، ناضل الإسلاميون ضد طغيان العسكر والأحزاب العلمانية، وسكنوا السجون، وصبروا، وقدموا نموذجا حميدا في النضال السلمي، إلى أن تسنى لهم السيطرة على مقادير الحكم، فلم يحيدوا عن الطموح السياسي الإسلامي القاضي بالسيطرة على الدولة تدريجيا، وتحويلها إلى ديكتاتورية إسلامية.

فراح رجب طيب أردوغان يعدل الدستور، مرة بعد مرة، حتى صار حاكم البلاد الأوحد، واستغل موارد الدولة والدين العام في تمويل زعامته، وراح يبسط جناحيه كالسلطان العثماني، منصبا نفسه راعيا للمسلمين السنة في الدول العربية والعالم.

معارضو أردوغان، بدورهم، سكنوا السجون بدلا منه، وأقفلت الحكومة مواقع إعلامية على الإنترنت، وراحت تصطاد من يتفوه حتى بكلمة واحدة لا تطيب لرجب طيب، حتى لو من السيّاح. والغالب أن يلجأ أردوغان إلى الأسلمة أكثر فأكثر كتدبير شعبوي لامتصاص النقمة الشعبية المتوقع تصاعدها مع اهتزاز الاقتصاد.

لم يحد "الإخوان المسلمون" في مصر عن الرؤية الإسلاموية في استغلال الديمقراطية للاستيلاء على الحكم في مصر بهدف تغييره. الخداع كان من اليوم الأول. السيد مرسي أعلن إقامة حزب، وقال إنه وحزبه ليسا في "الإخوان". مات مرسي فدفنوه في مقابر "مرشدي الجماعة" وأقامت فروع التنظيم حول العالم صلاة الغائب على روحه.

معارضو أردوغان سكنوا السجون بدلا منه، وأقفلت الحكومة مواقع إعلامية على الإنترنت

​​في رئاسته، لم يناد مرسي يوما بحريات فردية ولا ديمقراطية، بل هو سعى لمصادقة طغاة العالم والانخراط في "مجموعة بريكس"، بزعامة الصين وروسيا، كبديل عن تحالف مصر مع أميركا، فيما راح الإخوان يعيثون فسادا في الدستور المصري في محاولة، كالعادة، لتشريع "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وتخفيض سن الزواج، والتضييق على غير المسلمين. كل ذلك كان بذريعة "رغبة الأكثرية"، مع أن الاكثرية المطلوبة عادة لتعديل دساتير الدول هي الثلثين أو أكثر، فيما لم يتمتع الإخوان في مصر، ولا في تركيا، بأكثر من النصف بكثير.

واللافت أن "الإخوان" في مصر حتى اليوم، ومع المظلومية التي لحقتهم بسبب آرائهم السياسية، ما يزالون يسعون إلى استبدال نظام الحكم، لا بديمقراطية، بل بدولة إسلامية.

من سجنه، يدعو الناطق باسم التنظيم أحمد عارف المصريين "أن نستمر، أن نبقى، أن نواصل ما بدأناه، وسرنا فيه، وخضنا من أجله كل هذه المسيرة للوصول إلى حكم رشيد". طبعا لا يقول عارف علانية إنه يسعى لإقامة دولة إسلامية، لكن "الحكم الرشيد" في أدبيات الإسلاميين تعني شيئا واحدا فقط، وهو إعادة إحياء دولة الخلفاء الراشدين الأربعة من القرن الميلادي السابع.

وفي منفاه في تركيا، يكتب الإخواني المصري عطية العدلان على موقع "المعهد المصري للدراسات"، التابع للتنظيم، أن السيطرة على الدولة هي وسيلة، ويقول: "وهل ينكر أحد أن الدولة وسيلة لا غاية؟ لكن أي وسيلة هي؟ إنها وسيلة إلى إقامة الدين".

ومثل عارف وعدلان، يدعو حسين شحاتة على موقع "الإخوان" إلى "دوام المرابطة في سبيل نصرة دين الله"، و"المحافظة على التربية الروحية والبدنية والعتادية"، مستندا إلى الآية "وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم".

هذا هو تنظيم "الإخوان المسلمين"، في مصر، وفي تركيا، وحول العالم، لا يعترف بسيادة، ولا يؤمن بالديمقراطية. هو تنظيم يعيش أفراده حلم إقامة دولة إسلامية، فيها خليفة يعينه "أهل الحل والربط"، وفيها "شورى" ينتخبهم المسلمون وحدهم، وهي دولة قائمة على الشرع، وحكومتها قائمة على السيادة الشعبية. هذا هو بالضبط شكل "الجمهورية الإسلامية في إيران": ولي فقيه يعينه "مجلس تشخيص مصلحة النظام"، ورئيس ومجلس شورى ينتخبهما الشعب، وللولي وجماعته الكلمة العليا، أي ثيوقراطية (ديكتاتورية دينية) مكتملة الأوصاف.

في رئاسته، لم يناد مرسي يوما بحريات فردية ولا ديمقراطية

​​ثم يخرج علينا "الإخوان" ومناصروهم، ويتظاهرون بأنهم منخرطون في العملية الديموقراطية، وأن إقصاءهم هو طعنة لهذه الديمقراطية، وكأننا لا نقرأ ما يكتبون في سرّهم، ولا نسمع ما يقولون في خفائهم.

لمرسي الرحمة وللسجناء السياسيين من "الإخوان" الحرية، فالمواجهة السياسية لا تستدعي عنفا ولا قمعا. ولكن مع تمنياتنا للإخوان بالحرية والرفاه، لن نتمنى لهم الحكم، ولن نراهم بديلا أفضل من العسكر، ولن نعتقدهم ديمقراطيين، ولن نخلط بين المظلومية التي يتعرضون لها كأفراد ومواطنين، والمظلومية التي يعدّونها لكل البشر في حال قيض لهم أن يحكموا.

اقرأ للكاتب أيضا: جينات 'اللبنانيين' وعنصريتهم

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.