لم يستحق رئيس مصر الراحل محمد مرسي السجن، ولم يكن مبررا حبسه في ظروف سيئة وحرمانه الرعاية الصحية التي كان يحتاجها. مرسي مات مظلوما، ككثيرين في سجون الاستبداد حول العالم، من الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى، إلى إيران، ودول عربية، ودول في الأميركيتين الوسطى والجنوبية.
على أن مظلومية مرسي لا تلغي ظلامية "الإخوان المسلمين"، ولا تبرر رؤيتهم السياسية الإقصائية لكل من يعارضهم. كذلك، لا تبرر مظلومية مرسي الأساليب الملتوية والمخادعة التي يتبناها التنظيم لتحقيق حكم إسلامي بطريقة مرحلية، على طريقة النازية، أي عن طريق الاستيلاء على الحكم ديمقراطيا، ثم تقويضه رويدا رويدا، حتى إقامة دولة إسلامية قروسطوية. ومن لا يصدق خداع التنظيمات الإسلامية، ما عليه إلا النظر إلى إيران وتركيا.
لم تكن الثورة في إيران إسلامية، بل كانت ثورة متنوعة، برز فيها اليسار الإيراني العلماني، وفي صفوفه "حزب توده" الشيوعي، وهو ما أرعب الغرب، الذي سارع إلى مواجهة ما كان يعتقده مدا شيوعيا، بنفس الطريقة التي كان واجه بها الشيوعية في اليمن، وبعد اليمن في أفغانستان، فعاد رجل الدين روح الله الخميني من باريس، واستولى على الثورة تدريجيا، وصفى رموزها من غير الإسلاميين. وحتى يبعد الخميني عن نفسه شبهة العمالة للغرب ويتفوق على الشيوعيين الإيرانيين، أمر جماعته باجتياح السفارة الأميركية واعتقال ديبلوماسييها، وهي الانعطافة التي أدت إلى ثأر، ما زال قائما بين إيران وأميركا حتى اليوم.
في تركيا، ناضل الإسلاميون ضد طغيان العسكر والأحزاب العلمانية، وسكنوا السجون، وصبروا، وقدموا نموذجا حميدا في النضال السلمي، إلى أن تسنى لهم السيطرة على مقادير الحكم، فلم يحيدوا عن الطموح السياسي الإسلامي القاضي بالسيطرة على الدولة تدريجيا، وتحويلها إلى ديكتاتورية إسلامية.
فراح رجب طيب أردوغان يعدل الدستور، مرة بعد مرة، حتى صار حاكم البلاد الأوحد، واستغل موارد الدولة والدين العام في تمويل زعامته، وراح يبسط جناحيه كالسلطان العثماني، منصبا نفسه راعيا للمسلمين السنة في الدول العربية والعالم.
معارضو أردوغان، بدورهم، سكنوا السجون بدلا منه، وأقفلت الحكومة مواقع إعلامية على الإنترنت، وراحت تصطاد من يتفوه حتى بكلمة واحدة لا تطيب لرجب طيب، حتى لو من السيّاح. والغالب أن يلجأ أردوغان إلى الأسلمة أكثر فأكثر كتدبير شعبوي لامتصاص النقمة الشعبية المتوقع تصاعدها مع اهتزاز الاقتصاد.
لم يحد "الإخوان المسلمون" في مصر عن الرؤية الإسلاموية في استغلال الديمقراطية للاستيلاء على الحكم في مصر بهدف تغييره. الخداع كان من اليوم الأول. السيد مرسي أعلن إقامة حزب، وقال إنه وحزبه ليسا في "الإخوان". مات مرسي فدفنوه في مقابر "مرشدي الجماعة" وأقامت فروع التنظيم حول العالم صلاة الغائب على روحه.
في رئاسته، لم يناد مرسي يوما بحريات فردية ولا ديمقراطية، بل هو سعى لمصادقة طغاة العالم والانخراط في "مجموعة بريكس"، بزعامة الصين وروسيا، كبديل عن تحالف مصر مع أميركا، فيما راح الإخوان يعيثون فسادا في الدستور المصري في محاولة، كالعادة، لتشريع "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وتخفيض سن الزواج، والتضييق على غير المسلمين. كل ذلك كان بذريعة "رغبة الأكثرية"، مع أن الاكثرية المطلوبة عادة لتعديل دساتير الدول هي الثلثين أو أكثر، فيما لم يتمتع الإخوان في مصر، ولا في تركيا، بأكثر من النصف بكثير.
واللافت أن "الإخوان" في مصر حتى اليوم، ومع المظلومية التي لحقتهم بسبب آرائهم السياسية، ما يزالون يسعون إلى استبدال نظام الحكم، لا بديمقراطية، بل بدولة إسلامية.
من سجنه، يدعو الناطق باسم التنظيم أحمد عارف المصريين "أن نستمر، أن نبقى، أن نواصل ما بدأناه، وسرنا فيه، وخضنا من أجله كل هذه المسيرة للوصول إلى حكم رشيد". طبعا لا يقول عارف علانية إنه يسعى لإقامة دولة إسلامية، لكن "الحكم الرشيد" في أدبيات الإسلاميين تعني شيئا واحدا فقط، وهو إعادة إحياء دولة الخلفاء الراشدين الأربعة من القرن الميلادي السابع.
وفي منفاه في تركيا، يكتب الإخواني المصري عطية العدلان على موقع "المعهد المصري للدراسات"، التابع للتنظيم، أن السيطرة على الدولة هي وسيلة، ويقول: "وهل ينكر أحد أن الدولة وسيلة لا غاية؟ لكن أي وسيلة هي؟ إنها وسيلة إلى إقامة الدين".
ومثل عارف وعدلان، يدعو حسين شحاتة على موقع "الإخوان" إلى "دوام المرابطة في سبيل نصرة دين الله"، و"المحافظة على التربية الروحية والبدنية والعتادية"، مستندا إلى الآية "وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم".
هذا هو تنظيم "الإخوان المسلمين"، في مصر، وفي تركيا، وحول العالم، لا يعترف بسيادة، ولا يؤمن بالديمقراطية. هو تنظيم يعيش أفراده حلم إقامة دولة إسلامية، فيها خليفة يعينه "أهل الحل والربط"، وفيها "شورى" ينتخبهم المسلمون وحدهم، وهي دولة قائمة على الشرع، وحكومتها قائمة على السيادة الشعبية. هذا هو بالضبط شكل "الجمهورية الإسلامية في إيران": ولي فقيه يعينه "مجلس تشخيص مصلحة النظام"، ورئيس ومجلس شورى ينتخبهما الشعب، وللولي وجماعته الكلمة العليا، أي ثيوقراطية (ديكتاتورية دينية) مكتملة الأوصاف.
ثم يخرج علينا "الإخوان" ومناصروهم، ويتظاهرون بأنهم منخرطون في العملية الديموقراطية، وأن إقصاءهم هو طعنة لهذه الديمقراطية، وكأننا لا نقرأ ما يكتبون في سرّهم، ولا نسمع ما يقولون في خفائهم.
لمرسي الرحمة وللسجناء السياسيين من "الإخوان" الحرية، فالمواجهة السياسية لا تستدعي عنفا ولا قمعا. ولكن مع تمنياتنا للإخوان بالحرية والرفاه، لن نتمنى لهم الحكم، ولن نراهم بديلا أفضل من العسكر، ولن نعتقدهم ديمقراطيين، ولن نخلط بين المظلومية التي يتعرضون لها كأفراد ومواطنين، والمظلومية التي يعدّونها لكل البشر في حال قيض لهم أن يحكموا.
اقرأ للكاتب أيضا: جينات 'اللبنانيين' وعنصريتهم
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).