يحمل كاتب هذه السطور كثيرا من التقدير للرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي بسبب مواقفه المبدئية تجاه قضايا الحريات وحقوق الإنسان، والتي عبر عنها خلال كفاحه الطويل ضد الحكم الاستبدادي، حتى توجت باندلاع ثورة الياسمين التي أسقطت نظام الدكتاتور زين العابدين بن على ووضعت تونس على طريق الديمقراطية والحكم المدني التعددي.
في الثاني عشر من هذا الشهر استضاف برنامج "بلا حدود" في قناة الجزيرة الرئيس المرزوقي في حلقة تناولت الثورة السودانية، حيث هاجم الأخير المجلس العسكري في السودان وحمله مسؤولية القتل والانتهاكات وحدوث عمليات اغتصاب ترافقت مع فض الاعتصام السلمي أمام القيادة العامة للجيش بالخرطوم.
جدد المرزوقي تحذيره من التدخلات الإقليمية في السودان، مطالبا الثوار بمواصلة مسيرتهم السلمية وأن يقود الفترة الانتقالية مدنيون لا عسكريون، "كما نصحهم بعدم تطويل هذه الفترة أكثر من أربعة أشهر، لأن الانغماس في الإصلاحات السياسية ينتج عنه إهمال للجانبين الاجتماعي والاقتصادي، مما يؤخر فرص الاستثمار ويفاقم مشاكل البطالة ويزيد أعباء الثورة".
نتفق مع الدكتور المرزوقي حول كل ما أدلى به بخصوص مسؤولية المجلس العسكري عن مجزرة فض الاعتصام السلمي وما ترتب عليها من انتهاكات وقتل واغتصاب، وكذلك نؤيد تحذيره من التدخلات الإقليمية غير الحميدة خصوصا تلك التي تبدت من قبل دولتي الإمارات والسعودية اللتان أظهرتا تحيزا بائنا للمجلس العسكري في سعيه لإجهاض الثورة والعودة للحكم الأوتوقراطي.
ومن ناحية أخرى، فإننا نختلف معه في حديثه حول مدة الفترة الانتقالية، ذلك أن هذا الأمر يختلف من بلد لآخر بحسب الأوضاع الداخلية وما يرتبط بها من مقتضيات وإجراءات تتطلبها ضرورات تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة وضمان التخلص من تركة النظام الاستبدادي الذي خرجت الجماهير لإسقاطه.
عانى السودان طوال ثلاثة عقود من حكم جماعة الإخوان المسلمين، ذو الطابع العسكري الأوتوقراطي المحكوم بتوجهات أيدولوجية شديدة الصرامة، حيث طبق ذلك النظام برنامجا أسماه "التمكين" قام بمقتضاه بتشريد آلاف الموظفين من الخدمة المدنية والجيش والشرطة واستبدلهم بأعضاء الجماعة والموالين لها، كما سيطر على جميع مفاصل الاقتصاد والمال، فضلا عن أجهزة الإعلام والفضاء الاجتماعي العام.
في إطار تطبيق هذه السياسة تم تخريب القوانين واللوائح والنظم التي تضبط بيروقراطية الدولة، وتمددت صلاحيات الأجهزة الأمنية، وعلى رأسها جهاز الأمن والمخابرات الوطني، بصورة غير مسبوقة وبحيث أصبح ذلك الجهاز دولة داخل الدولة، كما أسست أجهزة موازية تتبع لجماعة الإخوان المسلمين أضحت هي المسؤولة عن تسيير شؤون الحكم بعيدا عن المؤسسات الرسمية.
كذلك قام النظام البائد بإدخال البلاد في سلسلة من الحروب الداخلية شملت ولايات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وهي الحروب التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المواطنين، كما تشرد على إثرها الملايين من السكان الذين ما زالوا يعيشون في معسكرات اللجوء في دول الجوار أو النزوح الداخلي.
تنبع أهمية التوضيح أعلاه من كونه يمثل الخلفية التي ستعمل في إطارها الحكومة الانتقالية التي اتفق طرفا التفاوض في السودان، "قوى إعلان الحرية والتغيير" والمجلس العسكري، أن تكون مدتها ثلاث سنوات.
ستعمل الحكومة الانتقالية خلال الستة أشهر الأولى بحسب الاتفاق المبرم بين طرفي التفاوض على عقد مؤتمر للسلام من أجل وقف الحرب ودعم الاستقرار وعودة اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم، إضافة لمعالجة أوضاع الحركات المسلحة المتمردة عبر برامج التسريح وإعادة الإدماج.
كذلك ستضطلع الحكومة الانتقالية بعملية إصلاح شاملة للخدمة المدنية ومختلف أجهزة الدولة التي تم تحطيمها عبر برنامج التمكين، إضافة لإصلاح القوانين وضمان تحييد البيئة الاقتصادية والمالية بحيث يتم فك الاحتكار والسيطرة التي انفرد بها أعضاء جماعة الإخوان المسلمين والموالين لهم، وحتى يسمح بتهيئة الملعب بطريقة عادلة ومنصفة لحين إجراء الانتخابات.
أيضا ستقوم الحكومة بإجراء إحصاء سكاني نزيه يشكل القاعدة التي ستستند عليها إجراءات الانتخابات، والأهم من ذلك أن الفترة الانتقالية ستشكل الحاضنة التي يتم فيها بناء الأحزاب السياسية التي تم إضعافها وتقسيمها طوال الثلاثين سنة الماضية من عمر الحكم الاستبدادي بحيث تستعيد تماسكها التنظيمي وقدرتها على التواصل الجماهيري بفعالية.
قد جرب السودان فترات الانتقال القصيرة التي لم تتعد مدتها السنة الواحدة وذلك في أعقاب ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1964 وانتفاضة نيسان/أبريل 1985، وكانت نتيجتها مخيبة للآمال، حيث تم الانتقال إلى حكم تعددي مضطرب، ذلك أن تلك الانتخابات أفضت إلى تكوين حكومات ضعيفة مما أدى لوقوع انقلابات عسكرية أجهضت الديمقراطية دون أن تستطيع تلك الحكومات إكمال دورة برلمانية واحدة.
إن إجراء الانتخابات خلال فترة أربعة أشهر كما ينصح الرئيس المرزوقي لن تكون نتيجتها سوى عودة النظام البائد بالكامل ذلك لأنه ما زال يسيطر على مفاصل الاقتصاد ودوائر المال وجهاز الدولة بمختلف مؤسساته، بينما ما تزال الأحزاب المعارضة تعاني من آثار الانقسامات والضعف التي أصابتها طوال الثلاثين عاما الماضية، كما لم تظهر أحزاب أخرى تمثل قوى الثورة وتعبر عن تطلعاتها وأهدافها.
كما أن استمرار الحروب الأهلية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق سيؤدي إلى إضعاف الحكومة الديمقراطية القادمة كما فعلت الحرب الأهلية في جنوب السودان مع الحكومة المنتخبة التي أعقبت انتفاضة نيسان/أبريل 1985، حيث ساهم استمرار الحرب في إضعاف جهود تلك الحكومة لعلاج مشاكل الاقتصاد كما أنه أدى لتذمر كبير في أوساط الجيش الذي اشتكى من ضعف الموارد مما مهد الطريق أمام الانقلاب العسكري.
إن أية محاولة لتحديد المرحلة الانتقالية بأربعة أشهر لن تؤدي إلى النتيجة المرجوة من الثورة العظيمة التي ضحى في سبيلها مئات الشهداء، إذ أن مهمة الانتقال هي إيجاد حلول جذرية للمشاكل التي تعيق تحقيق الغاية الأخيرة المتمثلة في تأسيس نظام ديمقراطي مستدام لا تعكر صفوه الانقلابات العسكرية التي حكمت السودان لأكثر من واحد وخمسين عاما منذ أن نال استقلاله من المستعمر البريطاني في عام 1956.
اقرأ للكاتب أيضا: حقيقة الحزب المدني ذي المرجعية الدينية
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).