كوشنر عارضا تفاصيل الخطة الاقتصادية خلال ورشة "الرخاء مقابل السلام"
كوشنر عارضا تفاصيل الخطة الاقتصادية خلال ورشة "الرخاء مقابل السلام"

حسن منيمنة/

ليس مفاجئا أن يظهر الفلسطينيون أقصى الاستغراب إزاء عملية تسعى إلى تحقيق سلام هم فيه أحد طرفين رئيسيين، فيما هي فعليا وعمليا تقصيهم عنها. وليس مستبعدا التزامهم بالتالي الإدانة والمقاطعة، كما تجهد إلى تثبيته التوجهات الإعلامية المعادية ابتداء لأية تسوية.

والنتيجة التلقائية لخطة السلام التي تطرحها الإدارة الأميركية الحالية قد تكون بالفعل المزيد من التسويف والتأجيل للمسألة التي أنبتت مسائل، دون أن تؤدي هذه الإطالة المستجدة لا إلى تبديد القضية ولا إلى تحسين فرص حلّها وفق التصورات العقائدية. وحده استمرار مظلومية الإنسان والمجتمع الفلسطينيين هو المؤكد كحاصل لمواجهة سياسية قائمة على افتراض سوء النوايا.

ليس سرا أن التماهي متحقق بين رؤية اليمين الإسرائيلي للإشكالية بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب، وبين التصور المعتمد لدى البيت الأبيض وفريقه المولج بالإعداد لصيغة حل. بل من المغالطة، والخلط التاريخي، مطالبة الولايات المتحدة بأن تعود إلى دور لم تدّعيه يوما بأنها على مسافة واحدة من طرفي الصراع.

فالموقف الذي أعلنه الرئيس الأميركي جهارا، والمنسجم مع تصور غالبية اجتماعية وفكرية في الولايات المتحدة، هو أن إسرائيل هي الحليف الأصيل والدائم في منطقة الشرق الأوسط، وأنها على حق في صلب مواقفها، وأن السعي إلى حلّ الأزمة العضال بينها وبين جيرانها هو لتحقيق صالحها، دون أن يتعارض ذلك مع القيم الأميركية التي تقتضي الإنصاف والعدالة، أي بما يتوافق بالتالي مع مصالح الخصوم، وإن ثابروا على عدائيتهم الكلامية إزاء كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.

نعم، ثمة تحوّل في صفوف التقدميين في الولايات المتحدة باتجاه المزيد من النقد للسياسات الإسرائيلية، والمزيد من التعاطف مع مصاب الفلسطينيين، غير أن من يرى في هذه التوجهات تبدلا جوهريا في طبيعة الموقف الأميركي إزاء الصراع في الشرق الأوسط يتجاهل عقود من التذبذبات المماثلة، والتي أثارت توقعات سرعان ما خابت حول انتقال ثقافي وشعبي في الولايات المتحدة نحو إدراك المظلومية الفلسطينية ومناصرة القضية العادلة.

بل إن سقف الميل التقدمي البارز اليوم هو أدنى من سوابقه، ذلك أنه يأتي في أجواء يعود إلى الظهور فيها عداء لليهود في الولايات المتحدة، مصدره القومية البيضاء، بما يعرّض القراءات التقدمية في بعض مبالغاتها أو عند افتقادها للحذر للتوافق مع التجريح الإقصائي بحق اليهود والصهيونية وإسرائيل، وفق التصوير الأهوائي للقوميين البيض.

وما الذي يجري عندما يتبين أن التعويل على تبدل في المواقف الشعبية والسياسية لم يؤدّ إلى نتيجة؟

بل لا بد من الإقرار بأنه ثمة ميل لدى بعض أصحاب التوجهات التقدمية إلى اعتماد ضمني للمقولات التسطيحية للقومية البيضاء، وغيرها من ظواهر العداء لليهود، والتي تنسب التأييد لإسرائيل إلى نفوذ فائق مزعوم للحضور اليهودي في الولايات المتحدة.

وفي حين أنه لا شك أن نسبة البارزين من خلفيات يهودية في العديد من القطاعات الحيوية في الولايات المتحدة مرتفعة بما يتجاوز بوضوح التعداد القليل للجالية اليهودية، غير أن هذه نقطة تسجل للثقافة اليهودية لا عليها، بما هي قائمة عليه عموما من التركيز على الامتياز والإنجاز والنجاح، دون الوقوع في فخ افتراض الأحادية في الأوساط اليهودية. بل إنه في حين أن بعض أشد المؤيدين لإسرائيل في الولايات المتحدة هم من اليهود، فإن أقوى الأصوات الناقدة لها، والناقضة لها، هم كذلك من اليهود.

وفي حين أن بعض الرأسماليين اليهود هنا هم أقوى الداعمين للتوجهات المحافظة، فإن في صفوف من يواجههم من التقدميين أعداد أخرى نافذة كذلك من المتمولين اليهود.

فالتضارب هنا هو بين من يرى في هذا الواقع ظاهرة تعبّر عن مجتمع تعددي، أي الجالية اليهودية، لا يختلف عن غيره في توافقاته وتعارضاته، وبين من يريد الاختصار الأهوائي لهذا الواقع في قراءة تنسب إلى "اليهود"، ككم أحادي متجانس، توزيع الأدوار والتحكم بمصائر البشرية الجاهلة (باستثناء الفطناء من أصحاب هذه القراءة طبعا).

ولا شك أن للقراءة التسطيحية هذه قدر من الجاذبية، لقدرتها على التفسير دون الحاجة إلى الاطلاع. ما سر تأييد إسرائيل في الولايات المتحدة؟ أليس من الأسهل إلقاء اللوم على نفوذ "اليهود" وتجنب اعتبار الأبعاد الثقافية والحقوقية والدينية والاجتماعية والتي تشكل عماد العلاقة بين البلدين؟

هذا الاستسهال في الحلول دون المضمون قد يناسب من لا علاقة مباشرة له بالموضوع. أما بالنسبة للفلسطينيين، فالجنوح إلى الافتراض بأن الأمر نفوذ ومصالح وأموال وحسب، دون القراءة المتروية للبعد الثقافي والأخلاقي، ففيه تفريط بالحقوق والمصالح الفلسطينية ذاتها.

أن يكون اليمين الأميركي، رغم غرابة التعبير في سياق الولايات المتحدة، على توافق متبلور مع اليمين الإسرائيلي، ليس انكشافا لمستور وحدهم أصحاب القراءات التسطيحية كانوا على دراية بشأنه، بل تدرج حبّذته ظروف متداخلة، ولا سيما فشل الطرح القائم على العولمة والقيم العالمية في العقود الماضية. وفي حين أن تداعيات هذا الفشل لا تزال في مراحل ظهورها الأولى، أي أنها مرشحة للمزيد من التفاقم نتيجة غياب الطرح الذي من شأنه إنقاذ العولمة والمرجعية المشتركة، فإن الأصح هو التعامل البناء مع الواقع الجديد.

ليس المقصود هنا التسليم بما لا يمكن التسليم به من تجاوز للحقوق، والرضوخ للحلول الاقتطاعية، والمبنية على الشحيح من الاعتبار والمعلومات، بل تجنب الوقوع في فخ انتظار ما لا عودة مباشرة له، أي إطار عدالة دولية مجردة لم يكن حتى بالأمس إلا رجاء.

القراءة الغالبة في الأوساط المسؤولة في الولايات المتحدة هي أن القضية الفلسطينية قد تحولت على مدى العقود من مسألة تهجير ولجوء وظلم إلى موضوع استغلال ومصالح واستعداء أهوائي، عقائدي وديني، لإسرائيل. فالسعي إلى حلّ هذه القضية هو إذن بتفكيك المقومات التي يجري توظيفها واستثمارها لمواصلة العداء وإطالة أمد المواجهة، من تعريف اللاجئ إلى مسعى الدولة النواة الهادفة إلى قضم إسرائيل رويدا رويدا. ثمة ميل يريد من الفلسطينيين والعرب الإقرار بأن في الأمر هزيمة لهم، لتشتيت التوجهات العقائدية التي من شأنها التعبئة، وثمة ميل آخر، وهو الغالب، إلى تحقيق الرخاء بما يمنع العقائديين من الكسب والحشد.

هل هي قراءة تسطيحية؟ طبعا، لما تتجاوزه من استمرار ارتكاب الظلم ضمن الاحتلال، ومن إنكار لحقوق الحرية والكرامة والملكية على مستوى الأفراد وما يلحق بها من حقوق مجتمعية ووطنية. هل هي قراءة خاطئة جملة وتفصيلا؟ طبعا لا كذلك، بشهادة أصحاب القضية أنفسهم في السر والجهار.

الحقيقة التي تظهر جليا كل يوم منذ عامين ونيف هو أن هذه الإدارة الأميركية تفرط في التبجح والمبالغات. غير أنه لا يجوز افتراض أن هذه الضوضاء الكلامية تعني الغياب الكامل للمضمون الصادق. وفي الموضوع الفلسطيني تحديدا، الأقرب إلى الواقع هو أن اندفاع فريق العمل كان من أجل إيجاد صيغة قابلة للتنفيذ والنجاح، دون شك وسط قدر عظيم من الغرور وغياب المعرفة والمواقف المنحازة المسبقة، ولكن على أساس السعي إلى تحقيق عدالة ما.

يمكن بالطبع رفض أي تعامل مع هذا المجهود القاصر، وإظهار السخط والرفض لما هو عليه من قصور. غير أن انتظار تبدل الأحوال، في الولايات المتحدة وعلى مستوى العالم ككل، لظهور منظومة متوافقة في إدراكها لطبيعة القضية مع الرؤية الفلسطينية، هو من الأوهام العقيمة. بل ربما أن المطلوب، رغم الألم، هو التخلي عن التصورات التسطيحية المشتتة، والسعي إلى التواصل من موقع العزة الأخلاقية مع الجميع، المسعى الأميركي واليمين الإسرائيلي على حد سواء، للتأكيد على وجوب توسيع الصورة فيما يتعدى الرخاء، وصولا إلى ما يبدو بعيد المنال من العدالة الصادقة وصولا إلى السلام المنشود.

اقرأ للكاتب أيضا: ولا 'الزمن الجميل' كان الأصل الثابت...

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.