في الوقت الذي تجمع فيه إدارة ترامب وزراء مالية عرب ودوليين في البحرين لمناقشة "رؤيتها الاقتصادية للشعب الفلسطيني"، تواجه "السلطة الفلسطينية" أزمة تمويل كبيرة وعاجلة. فهي تدفع نصف رواتب معظم موظفي الضفة الغربية وتخفض خدمات أخرى منذ شباط/فبراير، حين رفضت التحويل الشهري للإيرادات الضريبية التي تجمعها إسرائيل بالنيابة عنها.
وقد تمّ تقليص التحويلات بشكل طفيف بعد أن طبقت إسرائيل قانونا جديدا ينص على اقتطاعات بسبب المدفوعات التي تقدمها "السلطة الفلسطينية" إلى أسر "الشهداء" والمعتقلين في السجون الإسرائيلية. وجاء القانون في أعقاب تشريع أميركي مماثل يُعرف باسم "قانون تايلور فورس" الذي يهدف إلى الضغط على السلطة الفلسطينية من أجل وقف المدفوعات التي تشجع أعمال العنف.
وفي حديث لرئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية لصحيفة "نيويورك تايمز" في وقت سابق من هذا الشهر، حذّر من أن "السلطة الفلسطينية" قد تضطر قريبا إلى منح إجازات للموظفين، بمن فيهم أفراد الأمن.
وسابقا، أعلن "مكتب المنسق الخاص للأمم المتحدة" في نيسان/أبريل أن التحديات المالية والاقتصادية والسياسية تهدّد استمرارية "السلطة الفلسطينية".
المساعدات العربية الحالية ليست كافية
منذ شباط/فبراير، اتخذت "السلطة الفلسطينية" تدابير تقشفية صارمة، وجمعت متأخرات إضافية، وزادت وتيرة الاقتراض من المصارف الفلسطينية. وتبلغ الاقتطاعات الإسرائيلية 11.5 مليون دولار شهريا فقط، أو 6 في المئة من إيرادات التخليص، لكن مع ذلك أمر الرئيس محمود عباس "السلطة الفلسطينية" برفض التحويلات بالكامل ـ أي 188 مليون دولار شهريا، أو ما يقرب من 70 في المئة من إجمالي إيرادات الحكومة.
وتعتبر "السلطة الفلسطينية" أن الاقتطاعات الإسرائيلية تنتهك "بروتوكول باريس" (اتفاقية باريس الاقتصادية) الموقع عام 1994 والذي ينص على تعاون اقتصادي ثنائي ويضع شروط على اتحاد الجمارك القائم منذ فترة طويلة ونظام تحويل الإيرادات الخاص بـ "السلطة الفلسطينية".
ولم يسفر قراره بعد عن التنازلات التي كان يتوقعها على الأرجح من حكومة إسرائيلية جديدة لن يتم تشكيلها قبل تشرين الأول/أكتوبر على أقرب تقدير بعد الإعلان عن انتخابات جديدة للكنيست.
كما أن الدعم الخارجي للميزانية لم يكن كافيا لتجنّب الإفلاس الوشيك، ومن غير المرجح أن يقدّم المانحون المجتمعون في البحرين في إطار ورشة عمل "السلام من أجل الازدهار" تمويلا إضافيا. ورغم أن أهداف ورشة العمل غير واضحة، إلا أن مسؤولي إدارة ترامب أعلنوا أنها ليست مؤتمرا للتعهدات.
وفي 22 حزيران/يونيو، اجتمع وزراء المالية العرب في القاهرة ـ قبل سفرهم إلى المنامة ـ لحضور اجتماع طارئ لـ"جامعة الدول العربية" حيث أعادوا التأكيد على التزامهم بتوفير "شبكة أمان مالي" من المنح أو القروض لمساعدة "السلطة الفلسطينية" على مواجهة ثغرة التمويل التي تواجهها. غير أنهم لم يعلنوا عن أي تعهدات محددة.
وكانت "الجامعة العربية" قد أطلقت دعوة مماثلة للحصول على تمويل في نيسان/أبريل، ولكن حتى الآن لم تقدم أي دولة تعهدات فعلية باستثناء قطر، التي قدمت مبلغ إجمالي قدره 480 مليون دولار، شمل منحة بقيمة 180 مليون دولار لغزة وقرض بقيمة 250 مليون دولار لـ "السلطة الفلسطينية"، تمّ تحويلهما في اثني عشر قسطا شهريا. وسيتمّ منح المبلغ المتبقي وقدره 50 مليون دولار كمنحة إلى "السلطة الفلسطينية"، مما سيخوّلها دفع رواتب جزئية لغاية آب/أغسطس.
وتأتي المنحة القطرية في وقت حرج توشك فيه "السلطة الفلسطينية" على الاصطدام بسقف مفروض ذاتيا على الاقتراض المصرفي في تموز/يوليو. غير أنه عند مستويات الإنفاق الحالية، لن يكون القرض المرافق البالغة قيمته 21 مليون دولار شهريا كافيا لإبقاء "السلطة الفلسطينية" صامدة حتى فصل الخريف ما لم تهبّ دول مانحة أخرى لمساعدتها. وإذا لم يتم التوصل إلى حلّ قريبا، فقد تتفاقم الأزمة بالتزامن مع توجه الناخبين الإسرائيليين ثانية إلى صناديق الاقتراع في أيلول/سبتمبر.
هل تسعى السلطة الفلسطينية إلى "اقتصاد المقاومة"
عندما تولى رئيس الوزراء الفلسطيني اشتية منصبه في نيسان/أبريل وسط إحدى أشد الأزمات المالية والحوكمة التي مرّت بها "السلطة الفلسطينية" منذ أكثر من عقد من الزمن، أعلن عن خطة طموحة أمدها 100 يوم تشمل "فك الارتباط التدريجي" عن إسرائيل.
على سبيل المثال، ادعت "السلطة الفلسطينية" أنه تمت المبالغة في محاسبتها بتكاليف الخدمات الطبية التي بلغ مجموعها على حد قولها 100 مليون دولار في عام 2018، مما دفعها إلى التوقف عن إحالة المرضى الفلسطينيين إلى مستشفيات إسرائيلية.
كما أعلنت "السلطة الفلسطينية" أنها ستقدّم تمويلا طارئا إلى قطاع الكهرباء وتدرس إمكانية استبدال واردات الكهرباء الإسرائيلية بالطاقة من مصادر أردنية. وتشير تقارير أخرى إلى أن "السلطة الفلسطينية" نظرت في الوقف التدريجي لاستخدامها الشيكل الإسرائيلي واستبداله بالدينار الأردني أو الدولار الأميركي أو اليورو.
وفي أيار/مايو، خلال إفطار رمضاني لأسر الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد إسرائيل أو سجنوا من قبلها، دعا اشتية "منظمة التحرير الفلسطينية" إلى إعادة النظر في الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، قائلا: "لا يمكننا الاستمرار في الاعتراف بإسرائيل بينما هي لا تعترف بنا".
ورغم أن البحث عن مجالات عملية لتجنّب الاعتماد على إسرائيل هو خطوة تحظى بشعبية سياسية، إلا أنه من غير المحتمل أن تسعى "السلطة الفلسطينية" إلى فك الارتباط الواسع عن الاقتصاد الإسرائيلي.
فإسرائيل تبقى سوق التصدير الرئيسي للسلع والعمالة في الضفة الغربية؛ وتوفّر هذه العمالة بدورها واردات للضفة الغربية وقطاع غزة تناهز قيمتها 4 مليارات دولار سنويا. كما ينصّ "بروتوكول باريس" على أن يبقى الشيكل عملة تبادل مقبولة في الضفة الغربية وغزة. وعلى أي حال، تُعتبر الدعوات لإلغاء التعاون بموجب هذا البروتوكول غير عملية، لأنه في ظل غياب أي اتفاق جديد، ستبقى ترتيبات الوضع الراهن قائمة على الأرجح ـ أي اتحاد جمركي يكون بموجبه لإسرائيل سيطرة كاملة على الحدود الخارجية.
لا ترفض "بروتوكول باريس"، قم بإصلاحه
توفر الأزمة الراهنة فرصة لاعتماد نظام أكثر كفاءة وشفافية من شأنه أن يجلب المزيد من العائدات لـ"السلطة الفلسطينية" ـ من المحتمل أن تتخطى مستويات دخلها قبل أن تبدأ إسرائيل باقتطاعات التحويلات. وتُعتبر مثل هذه الزيادة مهمة في الوقت الذي يستمر فيه الدعم الخارجي في الانخفاض من ذروته في عام 2008.
إن الإصلاحات المطلوبة معروفة جيدا، وقد تمّ تلخيصها مؤخرا في تقرير "السلطة الفلسطينية" الصادر في أيلول/سبتمبر 2018 إلى "لجنة الاتصال المخصصة" التي تتولى تنسيق دعم المانحين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وتشمل هذه الإصلاحات:
- خفض الرسوم التي تدفعها "السلطة الفلسطينية" إلى إدارة جباية الجمارك الإسرائيلية.
- عدم فرض ضرائب ورسوم على واردات الوقود الفلسطينية التي تسترجعها "السلطة الفلسطينية" في نهاية المطاف بطريقة تعيق الإدارة الفعالة للتدفقات النقدية.
- اعتماد نظام إلكتروني للمبالغ المستلمة عن الواردات من شأنه أن يسهل إنفاذ القانون في وجه التهرب الضريبي في الضفة الغربية وقطاع غزة.
- تحسين إنفاذ القانون الإسرائيلي على التهرب من الرسوم الجمركية من خلال شحن البضائع عبر إسرائيل إلى الضفة الغربية وغزة.
وخلال اجتماع عقدته "لجنة الاتصال المخصصة" في بروكسل في نيسان/أبريل، شجعت الجهات الفاعلة الدولية إسرائيل و"السلطة الفلسطينية" على تحسين تطبيق البروتوكول.
وفي المرحلة القادمة، على مجتمع المانحين مواصلة السعي للتوصل إلى حل للمشاكل الاقتصادية الثنائية القائمة منذ فترة طويلة والتي سلّطت عليها الضوء خطة رئيس الوزراء اشتيه وأمدها 100 يوم ـ ليس فقط من خلال "لجنة الاتصال المخصصة" بل أيضا عبر إعادة تفعيل دور "اللجنة الاقتصادية الإسرائيلية ـ الفلسطينية المشتركة" التي حددها "بروتوكول باريس".
وتشمل هذه القضايا تطبيق "اتفاقية شراء الطاقة" لعام 2017 الهادفة إلى تحسين موثوقية الكهرباء في الضفة الغربية وتحقيق الاستقرار في إيرادات المرافق الفلسطينية. ومن شأن إيجاد حل أكثر ديمومة لهذه المشاكل التي تقوّض التعاون المالي أن يكون مفيدا أيضا.
وتُعتبر مثل هذه الإصلاحات وغيرها مهمة وقد طال انتظارها. ومع ذلك، فإنها لن تمنح "السلطة الفلسطينية" الغطاء السياسي الكافي لقبول التحويلات الجزئية للإيرادات من إسرائيل أو معالجة المشكلة الأساسية المتمثلة بالمدفوعات المتعلقة بـ "الشهداء".
وبالتالي، على المانحين مواصلة ممارسة الضغوط على "السلطة الفلسطينية" لاستبدال هذه المدفوعات بشبكة أمان اجتماعي قائمة على احتياجات عائلات "الشهداء". وفي الأساس، هذه مشاكل سياسية، ولكن تمرير المواضيع السياسية الشائكة إلى تكنوقراطيين في القنوات القائمة ـ الثنائية والمتعددة الأطراف ـ قد يكون السبيل الوحيد لتخفيف حدة الأزمة الحالية.
كاثرين باور هي زميلة "بلومنستين كاتس فاميلي" في معهد واشنطن ومسؤولة سابقة في وزارة الخزانة الأميركية.
المصدر: منتدى فكرة
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).