هل بدأ الشباب العربي يدير ظهره للدين؟ هذا هو العنوان الذي اختارته "بي بي سي" في عرضها لاستطلاع رأي مثير وهام أجرته شبكة البارومتر العربي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
أكثر من قضية إشكالية فحصها وناقشها هذا الاستطلاع وحاول أن يستكشف الموقف العربي منها دون أن يسعى إلى قراءة الدلالات أو تقديم تفسير لها.
من المؤكد أن استطلاعات الرأي مفيدة، وعلى درجة كبيرة من الأهمية، ويبقى من الضرورة أن تُقرأ في سياق حرية المجتمع في التعبير عن مواقفه دون خوف من ملاحقة السلطة، خاصة إن كانت الأسئلة ترتبط بقضايا إشكالية مثل تقييم السلطة الحاكمة، أو "التابوهات" المحرمة كالدين والجنس.
الإبحار في العقل العربي يبدو ممتعا لأن الرحلة لا تخلو من التقلبات، والمد والجزر، والمسير مع التيار أحيانا وعكسه أحيانا أخرى، وهي مهمة شاقة وعسيرة، لأن البوصلة في الغالب مضطربة تعكس حالة الرياح العاتية التي تعصف بهذا العالم وناسه.
هذا الاستطلاع تحديدا محير والتسليم بكل نتائجه باعتبارها حقائق صعب، ولكنها دالة على تحولات مجتمعية تحت الرماد، وأول الأسئلة الشائكة تراجع ظاهرة "التدين" في العالم العربي.
الاستطلاع الأول الذي اعتمدت المقارنة معه كان في عام 2013، والاستطلاع الحالي أجري في نهاية العام الماضي 2018 وأول الأشهر من هذا العام، ويقر أن نسبة الذين يصنفون أنفسهم بأنهم غير متدينين ارتفعت من 8 بالمئة الى نحو 13 بالمئة، هذه المواقف كانت معلنة وواضحة في تونس، حيث اعتبر ثلث التونسيين أنفسهم غير متدينين، وربع الليبيين يُعرفون أنفسهم هكذا، وتضاعف الرقم في مصر، وتزايد أربع مرات في المغرب.
كيف نقرأ هذا المؤشر؟ وهل يخرج العالم العربي من عباءة التدين؟
في السياق السياسي يجب أن ندرك مفاعيل ما بعد الربيع العربي، وانهيار تجربة الإسلاميين في مصر والانقضاض عليها، وتداعيات كل هذا على المسرح السياسي العربي، وأبعد من ذلك تكشُّف واستظهار أن الدولة الدينية لا تقدم حلولا اقتصادية، وتعيد إنتاج ذات الأزمات مثلما حدث في تونس في سنوات حكم "حزب النهضة" بتحالفاته، لكن رغم ذلك أعتقد أن سياق المواقف والإجابات ملتبس، ولا يعبر عن سياق ما يحدث على أرض الواقع في بعض الدول العربية!
أتفهم أن تونس دولة يترسخ فيها اتجاهات مدنية فاعلة تريد فصل الدين عن الدولة، غير أنني لا أفهم كيف يتزايد من يرون أنفسهم غير متدينين في ليبيا، والبلد تنخره الصراعات الدينية والقبلية وتسيطر عليه ميليشيات كثير منها تحمل يافطات دينية، أما الحال في مصر، فالتفسير يُقرأ في سياق التماهي مع خط الدولة وصراعها العلني مع "الإخوان المسلمين" والتيارات الدينية.
رغم هذه الإجابات المثيرة في الاستطلاع، فإن استخدام الدين في العالم العربي للتعبير عن الذات ما زال أمرا شائعا، واستدعاء الدين في مواجهة المتغيرات الاجتماعية يحضر بقوة، ويلجأ العديد من الشباب الذين لا تتسم ممارستهم لحياتهم اليومية بالتدين إلى التشبث بالهوية الدينية كلما شعروا بأزمة الهوية، وربما الإشارة إلى ما حدث في الأردن عند تسريب مقاطع من "مسلسل جن" والهجوم الكاسح عليه باعتباره خادش للحياء العام، ويمس القيم الدينية، والعادات والتقاليد يفسر ما أريد أن أقوله وأذهب إليه، والملاحظ فيما حدث أن كثيرا ممن استخدموا الدين لمعارضة المسلسل لا يُعرف عنهم التدين، واستخدموا في معرض إدانتهم لاستخدام الشتائم في المسلسل ألفاظا أكثر سوءا على صفحاتهم في "السوشيل ميديا".
الأكثر إثارة وتناقضا في استطلاع الرأي الموقف من المساواة بين الرجال والنساء في العالم العربي، فالاستطلاع يحتفي ويبشر بتزايد تقبّل العرب لتمكين المرأة وتوليها المواقع القيادية في المجتمع، بما في ذلك أن تصبح رئيسا للجمهورية أو الحكومة.
تنامى هذه "التيارات الحداثية" في العالم العربي أمر مفرح وعظيم، لكن الحقيقة الصادمة أن هذه الأغلبية التي تؤيد تمكين المرأة في السلطة لا تقبل أن يكون لها القول الفصل في المنزل، فالأغلبية العربية بما فيها النساء يعتقدون أن القول الفصل في القرارات الأسرية يجب أن تكون للرجل.
هذا هو الوجه الذي أعرفه وأتعايش معه في حياتي اليومية في العالم العربي، فقصة إعلان المواقف وتأييد المساواة في المجتمع "فرقعات" يستخدمونها ولا تصمد عند حدود منازلهم، فالاختبار ليس في إطلاق المواقف المجانية التي لا تغني ولا تسمن من جوع، فيما واقع الحال، دفاع عن مصالح "ذكورية" في حكم البيت أولا بما فيها النساء، والاستمرار في الهيمنة وحكم المجتمع والسلطة طبعا.
السياق الذي أقرأ فيه استطلاع الرأي واحد، والأرقام البراقة لا تخدعني رغم أنها مبهرة، ولذلك فإن السؤال الكاشف عن حجم الأزمة والاضطراب المجتمعي العربي يظهر أكثر في الموقف من المثلية الجنسية، ومقارنته بالموافقة على قتل النساء "غسلا للعار".
والغريب والفج البائن مثلا أن 26 بالمئة من الجزائريين يتقبلون المثلية الجنسية، وعلى النقيض فإن 27 بالمئة يقبلون القتل غسلا للعار، وذات المواقف المستغربة في المغرب حيث يتقبل 21 بالمئة المثلية الجنسية، و25 بالمئة لا يعارضون القتل "غسلا للعار".
وحتى المجتمع اللبناني الذي يوصف بالانفتاح والتعددية فقط 6 بالمئة يتقبلون المثلية الجنسية و8 بالمئة يوافقون على القتل "غسلا للعار".
لا أستغرب أن نجد قلة قليلة فقط تتقبل فكرة المثلية الجنسية في المجتمعات العربية، فهذه المواقف متوقعة ونتاج رؤية دينية واجتماعية، أما ما يبعث على الجنون تعالي أصوات تبرر قتل النساء "غسلا للعار"، وهو امتداد لذات العقول التي تريد النساء "خادمات" في البيوت، و"سي السيد" حاكم مطلق لا يُشق له غبار.
هذا الشق من الاستطلاع يجب أن يُدرس اجتماعيا، ويُناقش على أوسع نطاق لنتعرف على مجتمع يعيش حالة "فصام" في التعامل مع تحديات وظواهر، و"استلاب" في العديد من تصرفاته، ومواقفه، وتوجهاته، وهذا قد يكون نتاج عقود متواصلة من قمع السلطة، ومنعه من العيش والتعبير بحرية.
الأسئلة ذات البعد السياسي من الاستطلاع لم تكن إجاباتها ونتائجها مفاجئة، فالزعيم التركي رجب طيب أردوغان هو "النجم" والأفضل عند العرب مقارنة مع الرئيس الأميركي ترامب، والرئيس الروسي بوتين، وليس غريبا أن يحصد 51 بالمئة من الأصوات، يليه بوتين وحاز على 28 بالمئة من الأصوات، وتذيل القائمة ترامب بـ 12 بالمائة، وليس غريبا أيضا أن يخسر أردوغان معركة التصويت في مصر التي تحاربه علنا ولا يحصد سوى 12 بالمئة من المصوتين المؤيدين له.
حين تضيق الدول على شعوبها فإن التفكير بالهجرة يبدو سياقا متوقعا ومألوفا، وحين يضيق فضاء الحريات السياسية وتتقلص فرص العيش الكريم فإن النتيجة تكون أن واحدا من كل خمسة شاركوا بالاستطلاع يرغبون بالهجرة، حتى وصلت إلى 40 بالمئة في بلد مثل الأردن يعيش أزمات اقتصادية متلاحقة.
يرى الاستطلاع أن العالم العربي ينزلق نحو الديكتاتورية، وأنا أرى ذلك، والقضية ليست في سلطة مستبدة وحاكم ديكتاتوري، الكارثة أعمق وأخطر وتتلخص في مجتمع ذكوري سلطوي تلوث بعد عقود من السيطرة، والحكم الفردي المطلق، فأصبح للأسف في صورته العامة على شاكلة حكامه، عنيفا، قاطعا، أحاديا في آرائه، ولا يتمتع بالتسامح واحترام الاختلاف، ويطلق الرصاص الطائش والعشوائي بكل الاتجاهات، فيطلق الرصاص على نفسه وبين قدميه أولا، فيكون أول الضحايا وكل رفاقه معه.
البارومتر العربي في استطلاعه الذي شمل ما يزيد عن 25 ألف شخص من 10 دول عربية إضافة لأراضي السلطة الفلسطينية، ومنعت إجرائه بعض الدول الخليجية، واشترطت دول أخرى شطب بعض الأسئلة لتنفيذه، لا يدق ناقوس الخطر فقط، وإنما يثير الهلع من تحولات مجتمعية تخلق الاضطراب أكثر مما تصنع الاطمئنان.
اقرأ للكاتب أيضا: مسلسل 'جن': غضب الشارع و'خدش الحياء' ومدن الفضيلة
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)