السلطة تفرض خطابها. في لبنان حزب الله هو السلطة، لكنه منكفئ عن مستواها الداخلي، ومفسح المجال للعونيين لكي يسرحوا ويمرحوا، وهو بذلك أحل التفاهة والابتذال مكان هراء المقاومة ومكرها. ولبنان اليوم متنازع بين "مقاومة" استنفدت خطابها عبر القتال إلى جانب النظام السوري، وبين تيار أهلي عصبوي لا يملك ناصية عبارته، ومندفع في خطاب كراهية وطني.
ووسط هذا المشهد، يمكنك أن تتلقى مكالمة هاتفية من أحد معارفك العونيين يسألك فيها إذا ما كنت تقدم مصلحة اللاجئ الذي ينعم بخيرات بلدك، على مصلحة هذا البلد، وينصحك ببلاهة بأن تعود إلى رشدك وأن تنضم إلى الحرب على اللاجئين!
ما يجري في لبنان هذه الأيام مذهل. المشهد ليس مجرد سجال حول اللاجئين والمساعي إلى طردهم. لقد تحول الأمر إلى واقع يومي. لافتات تسأل عن عمال لبنانيين، وأرباب عمل يتحدثون عن وظائف شاغرة، وأصدقاء باشروا انقطاعهم عن وظائفهم بسبب غزوات الأمن العام. وسائل إعلام تحرض على العمال، وسعد الحريري وتكتله النيابي غارقون في صمت غريب.
إنها الهزيمة! لا بأس، ولكن لنحاول أن نسعى إلى تنظيم هذه الهزيمة. المشكلة الرئيسة هنا هي أن المنتصر الحقيقي قرر أن ينكفئ. جبران باسيل هو قناع المنتصر، وهو إذ يدرك هذه الحقيقة، يذهب بالمواجهة إلى هذا الدرك وهذا الابتذال.
لبنان مفلس. ويعيد ديبلوماسيون واقتصاديون الحملة على اللاجئين وصمت رئيس الحكومة عنها إلى رغبة الدولة في الضغط على الدول المانحة التي لم تقنعها موازنة الفساد، لكي تلتزم بما وعدت به في "سيدر". هذا هو التفسير الوحيد لصمت الحريري. ابتزاز المجتمع الدولي بموضوع اللاجئين. نحو مليون إنسان يُستعملون للضغط على المجتمع الدولي لكي يقبل بفساد حكومتنا!
لكن لكي يكون المرء منصفا عليه أن يلاحظ أيضا أن صمت الحريري هو امتداد لصمت "الأمة السنية" على المذبحة السورية. صمت الخليج وصمت مصر وصمت تركيا. ومنظومة الصمت هذه، بحلقات فسادها وارتهان ملوكها ورؤسائها جعلت من المهمة التي أوكلها حزب الله لباسيل ممكنة وعادية ومنسجمة مع مشهد أوسع منها. فالكراهية شعور يبقى مكبوتا بانتظار أن يجد فرصته، وها هو قد وجده.
حزب الله ابتعد عن المشهد مفسحا المجال لرقصة جبران باسيل. سعد الحريري متواطئ معه. وليد جنبلاط أضعف من أن يتولى المواجهة، ومصلحة الطائفة تتقدم أي مصلحة أخرى. اللاجئون في العراء. أخبار عن تسليم السلطات اللبنانية مطلوبين سوريين للخدمة العسكرية. وأخبار أخرى وردت لأهالي هؤلاء أن السلطات السورية أعدمتهم. هذه الأخبار ليست جزءا من السجال اللبناني حول اللاجئين، ذاك أن الأهالي لا يجرؤن على المجاهرة فيها خوفا من دوريات الأمن العام، ثم من يكترث لسوريين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد أعدمهم نظام بلدهم. إنه نظامهم، وعليهم أن يقبلوا به. يمكنك فعلا أن تسمع هذا الكلام من صحفي لبناني، ومن مهندس وطبيب.
المسألة لا علاقة لها بقرار عودة اللاجئين، ذاك أن هذا القرار يتطلب موافقة النظام السوري، وضمانات دولية بعودة آمنة. النظام قال إنه لن يستقبلهم قبل أن يتقاضى الثمن، وهو قتل عددا ممن عادوا. المسألة إذا هي استعمالهم في قضية داخلية. آلاف من اللاجئين باشروا مساع ومحاولات للمغادرة إلى أوروبا بفعل الضغوط المستجدة.
هذه فرصة دولتنا الفاسدة لكي تفرض على المانحين أن يقبلوا بموازنة الفساد وأن يلتزموا بوعودهم في "سيدر"، على رغم عدم اقتناعهم بإجراءات الحكومة للحد من الفساد. خطوة واحدة نحو قبول أوروبي بموازنة الحكومة، ستعيد إلى أصحاب الرؤوس الحامية، الخائفون على لبنان من اللاجئين "رشدهم". سيصمت "الشعب" ويقبل باللاجئين ما أن تلوح لقادة خطاب الكراهية فرصة لتجديد فسادهم ومراكمة ثرواتهم، وما أن يشعر هؤلاء أن إفلاس الدولة التي ينهبونها لن يعلن قريبا.
"القطيع" قبل بالمهمة الموكلة إليه من قبل طبقة سياسية فاسدة. "التفوق الجيني" لم يسعفه في التخفف من تحوله "قطيعا" يديره مجوعوه. انزلق إلى قاع عنصري، وأتاح لمجوعيه فرصة نجاة بما سرقوه منه. هذا هو المضمون الفعلي لخطاب الكراهية اللبناني. أهل هذا الخطاب ليسوا أكثر من "قطيع أهلي" يقوده كراز فاسد. وهنا علينا ألا نشعر بهول هذه المعادلة، ذاك أن وقود العنصرية لطالما كانوا أهلها، وفيما ينعم قادة الخطاب بغنائمه يموت "القطيع" بالحرائق التي يخلفها.
الخوف على لبنان من هذا الخطاب لا يجب أن يكون أقل من الخوف على اللاجئين. فالمنطقة تسبح ببحر من الحروب، وما يجري في لبنان هو تأسيس لمزيد من الضغائن التي ما أن تجد لنفسها فرصة ستنفجر بوجه أصحابها. وفي هذه اللحظة سيكون الأقوى هو الأكبر حجما والأكثر امتدادا. هذا هو منطق الحروب ومنطق الحرائق، ولطالما اختبر لبنان، واختبر أقلويوه هذه المعادلة.
اقرأ للكاتب أيضا: 'مجرمون في سبيل وطننا'
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).