عسكري متقاعد يحرق الإطارات خلال تحرك للعسكريين المتقاعدين ضد إجراءات الحكومة الاقتصادية للحكومة اللبنانية
عسكري متقاعد يحرق الإطارات خلال تحرك للعسكريين المتقاعدين ضد إجراءات الحكومة الاقتصادية للحكومة اللبنانية

حازم الأمين/

السلطة تفرض خطابها. في لبنان حزب الله هو السلطة، لكنه منكفئ عن مستواها الداخلي، ومفسح المجال للعونيين لكي يسرحوا ويمرحوا، وهو بذلك أحل التفاهة والابتذال مكان هراء المقاومة ومكرها. ولبنان اليوم متنازع بين "مقاومة" استنفدت خطابها عبر القتال إلى جانب النظام السوري، وبين تيار أهلي عصبوي لا يملك ناصية عبارته، ومندفع في خطاب كراهية وطني.

ووسط هذا المشهد، يمكنك أن تتلقى مكالمة هاتفية من أحد معارفك العونيين يسألك فيها إذا ما كنت تقدم مصلحة اللاجئ الذي ينعم بخيرات بلدك، على مصلحة هذا البلد، وينصحك ببلاهة بأن تعود إلى رشدك وأن تنضم إلى الحرب على اللاجئين!

حزب الله ابتعد عن المشهد مفسحا المجال لرقصة جبران باسيل

​​ما يجري في لبنان هذه الأيام مذهل. المشهد ليس مجرد سجال حول اللاجئين والمساعي إلى طردهم. لقد تحول الأمر إلى واقع يومي. لافتات تسأل عن عمال لبنانيين، وأرباب عمل يتحدثون عن وظائف شاغرة، وأصدقاء باشروا انقطاعهم عن وظائفهم بسبب غزوات الأمن العام. وسائل إعلام تحرض على العمال، وسعد الحريري وتكتله النيابي غارقون في صمت غريب.

إنها الهزيمة! لا بأس، ولكن لنحاول أن نسعى إلى تنظيم هذه الهزيمة. المشكلة الرئيسة هنا هي أن المنتصر الحقيقي قرر أن ينكفئ. جبران باسيل هو قناع المنتصر، وهو إذ يدرك هذه الحقيقة، يذهب بالمواجهة إلى هذا الدرك وهذا الابتذال.

لبنان مفلس. ويعيد ديبلوماسيون واقتصاديون الحملة على اللاجئين وصمت رئيس الحكومة عنها إلى رغبة الدولة في الضغط على الدول المانحة التي لم تقنعها موازنة الفساد، لكي تلتزم بما وعدت به في "سيدر". هذا هو التفسير الوحيد لصمت الحريري. ابتزاز المجتمع الدولي بموضوع اللاجئين. نحو مليون إنسان يُستعملون للضغط على المجتمع الدولي لكي يقبل بفساد حكومتنا!

لكن لكي يكون المرء منصفا عليه أن يلاحظ أيضا أن صمت الحريري هو امتداد لصمت "الأمة السنية" على المذبحة السورية. صمت الخليج وصمت مصر وصمت تركيا. ومنظومة الصمت هذه، بحلقات فسادها وارتهان ملوكها ورؤسائها جعلت من المهمة التي أوكلها حزب الله لباسيل ممكنة وعادية ومنسجمة مع مشهد أوسع منها. فالكراهية شعور يبقى مكبوتا بانتظار أن يجد فرصته، وها هو قد وجده.

هذه فرصة دولتنا الفاسدة لكي تفرض على المانحين أن يقبلوا بموازنة الفساد

​​حزب الله ابتعد عن المشهد مفسحا المجال لرقصة جبران باسيل. سعد الحريري متواطئ معه. وليد جنبلاط أضعف من أن يتولى المواجهة، ومصلحة الطائفة تتقدم أي مصلحة أخرى. اللاجئون في العراء. أخبار عن تسليم السلطات اللبنانية مطلوبين سوريين للخدمة العسكرية. وأخبار أخرى وردت لأهالي هؤلاء أن السلطات السورية أعدمتهم. هذه الأخبار ليست جزءا من السجال اللبناني حول اللاجئين، ذاك أن الأهالي لا يجرؤن على المجاهرة فيها خوفا من دوريات الأمن العام، ثم من يكترث لسوريين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد أعدمهم نظام بلدهم. إنه نظامهم، وعليهم أن يقبلوا به. يمكنك فعلا أن تسمع هذا الكلام من صحفي لبناني، ومن مهندس وطبيب.

المسألة لا علاقة لها بقرار عودة اللاجئين، ذاك أن هذا القرار يتطلب موافقة النظام السوري، وضمانات دولية بعودة آمنة. النظام قال إنه لن يستقبلهم قبل أن يتقاضى الثمن، وهو قتل عددا ممن عادوا. المسألة إذا هي استعمالهم في قضية داخلية. آلاف من اللاجئين باشروا مساع ومحاولات للمغادرة إلى أوروبا بفعل الضغوط المستجدة.

هذه فرصة دولتنا الفاسدة لكي تفرض على المانحين أن يقبلوا بموازنة الفساد وأن يلتزموا بوعودهم في "سيدر"، على رغم عدم اقتناعهم بإجراءات الحكومة للحد من الفساد. خطوة واحدة نحو قبول أوروبي بموازنة الحكومة، ستعيد إلى أصحاب الرؤوس الحامية، الخائفون على لبنان من اللاجئين "رشدهم". سيصمت "الشعب" ويقبل باللاجئين ما أن تلوح لقادة خطاب الكراهية فرصة لتجديد فسادهم ومراكمة ثرواتهم، وما أن يشعر هؤلاء أن إفلاس الدولة التي ينهبونها لن يعلن قريبا.

الخوف على لبنان من هذا الخطاب لا يجب أن يكون أقل من الخوف على اللاجئين

​​"القطيع" قبل بالمهمة الموكلة إليه من قبل طبقة سياسية فاسدة. "التفوق الجيني" لم يسعفه في التخفف من تحوله "قطيعا" يديره مجوعوه. انزلق إلى قاع عنصري، وأتاح لمجوعيه فرصة نجاة بما سرقوه منه. هذا هو المضمون الفعلي لخطاب الكراهية اللبناني. أهل هذا الخطاب ليسوا أكثر من "قطيع أهلي" يقوده كراز فاسد. وهنا علينا ألا نشعر بهول هذه المعادلة، ذاك أن وقود العنصرية لطالما كانوا أهلها، وفيما ينعم قادة الخطاب بغنائمه يموت "القطيع" بالحرائق التي يخلفها.

الخوف على لبنان من هذا الخطاب لا يجب أن يكون أقل من الخوف على اللاجئين. فالمنطقة تسبح ببحر من الحروب، وما يجري في لبنان هو تأسيس لمزيد من الضغائن التي ما أن تجد لنفسها فرصة ستنفجر بوجه أصحابها. وفي هذه اللحظة سيكون الأقوى هو الأكبر حجما والأكثر امتدادا. هذا هو منطق الحروب ومنطق الحرائق، ولطالما اختبر لبنان، واختبر أقلويوه هذه المعادلة.

اقرأ للكاتب أيضا: 'مجرمون في سبيل وطننا'

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.