كوشنر مستعرضا تفاصيل الخطة
كوشنر مستعرضا تفاصيل الخطة

فارس خشّان/

لم تفشل "ورشة المنامة حول السلام والازدهار في الشرق الأوسط". نجاحها يحتاج إلى نقاش.

هذه الورشة، لم تنعقد، في الأساس، من أجل تحقيق خرق تسووي سياسي في "السور العظيم" الذي يحيط بالصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. حتى الأطفال يدركون أن ذلك من سابع المستحيلات، أقلّه في الوقت الراهن.

إن لهذه الورشة أهدافا أخرى، من بينها إيصال رسالة إلى الفلسطينيين في الداخل والخارج، بأن "الموت ليس قدرا".

ربما على الفلسطينيين، أن يبدأوا بتفكير عميق في الطريقة المثلى لاستغلال هذا "الوعد الأميركي"

​​وليس أدل على ذلك سوى الطريقة التي استعرض بها جاريد كوشنير خطة النهوض، بحيث بدت، بأفلامها وصورها وأرقامها ولغتها، كأنها الطريق السحري للعثور على "الفردوس المفقود" في هذا العبور الطويل للصحراء التي جبلت بالموت والدمار والتهجير والفقر والذل والاستعباد والاستغلال.

وكان معروفا مسبقا بأن الفلسطينيين لن يصفقوا لا لكوشنير ولا لخطته. هذا لم يكن مرجوا. الهدف الأساسي كان في دفعهم دفعا إلى التفكير في المستقبل مقارنة مع الماضي والحاضر.

ولم يكن مطلوبا أن يأتي كبار السياسيين الفلسطينيين والإسرائيليين والعرب إلى هذه الورشة، بل المؤسسات الدولية التي يمكنها وحدها أن تشهد لمعقولية "الحلم" وإمكانية تحقيقه. وهذا ما حصل.

ولم يقع مهندسو الورشة يتقدمهم كوشنير بإحباط بسبب التسريبات التي سبقتها وواكبتها عن الخطة السياسية المقرر إعلانها في وقت لاحق، وهي تنال، بشكل كبير من المطالب الفلسطينية التاريخية. العكس بدا صحيحا، فالحلم لا يبني نفسه على الحقوق المرفوعة بل على حق الحياة.

وهذه الحقيقة المرة، لا تبدو أنها تشكل عقدة لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي تعلن انحيازها، بشكل واضح لا لبس فيه لإسرائيل، بل هي، وفق ما تريد الورشة، تشكل عقدة لكل من يشجع الفلسطينيين على الرفض والمواجهة والموت والحرمان.

بالنسبة لترامب وكوشنير وإدارته، فإن إسرائيل تقوى يوما بعد يوم، وتترسخ مطالبها سنة بعد سنة، والإسرائيليون يتمتعون بمستوى حياة طبيعية، وتاليا فهم، كما بيّنت التجربة، يستفيدون من قدرتهم على الانتظار، فيما يخسر الفلسطينيون كلّما كبرت تضحياتهم، فهم يغرقون في اليأس، ويعبّرون عن أنفسهم بالموت، ويفقدون أوراق قوتهم، وتاليا حقوقهم.

في النظرة الأميركية، فإن الفلسطينيين، بدأوا يخسرون أثمن الحلفاء العرب، بسبب إيران واستخدامها لهم

​​وفي نظرة إدارة ترامب لنفسها، فإنها، بتعاملها مع إسرائيل إنما تحترم ميزان القوة الواقعي، ولكنها بتعاملها مع الفلسطينيين، من خلال الخطة التي أعلنها كوشنير في "ورشة المنامة"، إنما تريد أن تنحاز إلى عذابات هذا الشعب وحاجاته العميقة، وذلك على قواعد سياسية واضحة وليس على أساس إنساني بلا أفق، وفق ما كان يحصل سابقا.

وبذلك، تكون واشنطن، وفي حمأة الصراع المفتوح مع إيران، قد قدمت للفلسطينيين القدرة على المقارنة، بين وعودها المستقبلية المبنية على الازدهار، من جهة والتحريض الإيراني الذي يزيد الهوة الجهنمية، من جهة أخرى.

وفي النظرة الأميركية، فإن إيران ومعها جميع القوى التي تحرّض الفلسطينيين على المواجهة الراديكالية، لم تحقق لهم شيئا، فهم يمنون بخسائر كبيرة، سنة بعد سنة، في وقت يعيشون في جحيم مفتوح، سواء في غزة أم في دول اللجوء.

وفي النظرة الأميركية أيضا، فإن الفلسطينيين في الواقع، بدأوا يخسرون أثمن الحلفاء العرب، بسبب إيران واستخدامها لهم، من أجل هداف خاصة بها.

قد تكون الخطة التي أعلنها جاريد كوشنير في المنامة مجرد بناء "قصر في إسبانيا"، ولكنها بالمحصلة فتحت الأعين، مجددا، على معاناة الفلسطينيين المأساوية وعجز المنحازين إليهم عن تحقيق أي شيء لهم، سواء على المستوى العسكري أم على المستوى السياسي أم على المستوى الحياتي.

لهذه الورشة أهدافا أخرى، من بينها إيصال رسالة إلى الفلسطينيين بأن "الموت ليس قدرا"

​​وربما على الفلسطينيين، أن يبدأوا بتفكير عميق في الطريقة المثلى لاستغلال هذا "الوعد الأميركي"، وفق إحدى القواعد الذهبية للدهاء السياسي التي تسمح للضعفاء، عند الضرورة، بالاستفادة من خصومهم، بحيث يضعون داعميهم أمام الحقائق المرة، فهم إذا كانوا غير قادرين على مساعدتهم في "إزالة إسرائيل من الوجود"، فعليهم أقله أن يبادروا، بسرعة، إلى إطلاق برنامج واقعي يعين الشعب الفلسطيني على حد أدنى من الحياة الكريمة، سواء في غزة أم في دول اللجوء.

قد يكون جاريد كوشنير قد طرح، في المنامة، عرضا لشراء القضية الفلسطينية بوعد الازدهار، فهل يملك الفلسطينيون القدرة على استغلال هذا العرض ليواجهوا من يزعمون دعمهم بما هم يحتاجون إليه؟

اقرأ للكاتب أيضا: لصوص... لبنان!

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.