د. عماد بوظو/
في سلسلة من الممارسات العنصرية والبعيدة عن الإنسانية بحق اللاجئين السوريين في لبنان تضمنت إحراق خيمهم وإهانتهم ومنعهم من التجول في بعض المناطق واستغلال أي تصرف خاطئ من أحد اللاجئين لتوظيفه في حملة كراهية وتحريض متواصلة ضدهم، برز اسم وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل كأحد قادة هذه الحملة.
تهدف هذه الحملة لإلقاء اللوم في كل ما يعانيه لبنان من مشاكل على وجود اللاجئين السوريين، بدل تحميل المسؤولية للسياسة التي يتبعها حزب الله وحليفه الجنرال ميشال عون، التي ربطت لبنان مع أنظمة مارقة معزولة دوليا وغريبة عنه ثقافيا واجتماعيا.
تجاوب بعض اللبنانيين مع تصريحات جبران باسيل بتنظيم اعتصامات أمام محال يملكها سوريون وحملوا لافتات تعبر عن رغبتهم في طردهم، واستجابة لهذا التوجه تقوم الحكومة اللبنانية يوميا بترحيل أعداد من السوريين رغم معرفتها بما الذي ينتظر اللاجئين عندما تستلمهم الاستخبارات السورية.
وفي سياق الرد على شعار الوزير باسيل: "اللبناني قبل الكل"، سارع بعض السعوديين وبينهم أمراء بالرد متسائلين عن اللبنانيين المقيمين في دول الخليج والذين تقدر أعدادهم بشعرات الآلاف والذين يقومون بتحويل مليارات الدولارات سنويا إلى لبنان، فكذلك "ابن الخليج قبل الكل"، وهناك أيضا في دول الخليج من يعزو الضائقة المالية إلى الأجانب المقيمين فيه والذين أصبحوا عبئا اقتصاديا وبشريا عليه.
في الوقت نفسه قدم المحامي المصري سمير صبري بلاغا للنائب العام يطالب فيه بالكشف عن مصادر أموال السوريين في مصر، معتبرا أنهم غزوا المناطق التجارية وحوّلوا بعض ضواحي القاهرة إلى مدن سورية، وردّت النائبة الكويتية صفاء الهاشم على المحامي المصري غامزة من قناة العمالة المصرية التي تجني مليارات الدولارات من عملها في الخليج وتقوم بإرسال كثير منها سنويا لمصر، ووصفت بعض المقيمين بالخليج بأنهم "عالة على المجتمع" تثقل كاهل الدول التي تستضيفهم.
وهناك حملة مماثلة على المصريين المقيمين في ليبيا، وعلى الليبيين المقيمين في تونس، وعلى الفلسطينيين المقيمين في جميع الدول العربية، بحيث أصبح من الواضح أن العلاقة بين شعوب الدول العربية قد تحولت من الأخوّة والمصير الواحد إلى عبء يسعى كل طرف للتخلص منه.
لم تكتف تطورات السنوات الأخيرة بالتأكيد على موت فكرة الوحدة العربية والأمة الواحدة من المحيط إلى الخليج، بل أدّت إلى انقسام مجتمعات البلد الواحد إلى مكونات طائفية وقبلية ومناطقية متناحرة، وأصبحت محافظة كل بلد على وحدته تعتمد على قوة وتماسك مؤسسته العسكرية والأمنية، وليس على الرغبة الحرة لأبنائه، فلو توفّر على سبيل المثال مناخ مناسب للتعبير الحر عن الرأي في لبنان، لقال كثير من مواطني الجنوب اللبناني إنهم يشعرون أن ابن البحرين أو العراق أو إيران الشيعي أقرب إليهم من اللبناني ابن طرابلس، ولقال بعض سكان بيروت السنّة إن قوة السعودية تساعد في حمايتهم من لبنانيين آخرين يتربصون بهم، ولقال بعض المسيحيين إن ما يجمعهم مع أي مسيحي في العالم أكثر من ما يجمعهم مع سكان بلدهم المسلمين، ويؤكد على ذلك ما تناقله الإعلام ومواقع التواصل من قرار رئيس بلدية الحدث جورج عون بمنع المسلمين من استئجار أو شراء منازل في تلك البلدة.
أما في سوريا فالوضع أصبح مكشوفا ولا يجد أغلب السوريين حاجة للتستّر عليه، فنظام الأسد وحاضنته الطائفية لا تكتفي بالشعور بالعداء تجاه مكونات أخرى من السوريين بل جلبت وحدات عسكرية إيرانية وميليشيات شيعية خارجية وقوات روسية لقتل السوريين الآخرين. وهناك سوريين يدافعون عن أردوغان ويعتبرونه زعيمهم. ويستقبل موت أحد السوريين بالحزن في بعض المناطق وبالفرح والابتهاج في مناطق أخرى.
وهناك في العراق اليوم ثلاث أقاليم متنافرة أحدها يتحكم بمصادر القوة والثروة والآخران يتحيّنان الفرصة والظرف المناسب لأخذ حقوقهم منه. وحتى في الأردن، هناك انقسام بين الفلسطينيين والأردنيين وهو انقسام يظهر للسطح كلما سنحت الفرصة.
وفي اليمن، لا هدف لغالبية سكان الجنوب سوى الانفصال عن الشمال الذي يشعرون أنه لا يشبههم. وفي الشمال يرى الحوثيون في إيران أخا وحليفا وفي بقية اليمنيين أعداء.
والوضع في ليبيا يسير باتجاه إعادة إحياء الأقاليم القديمة التي تكوّنت منها ليبيا قبل عقود، لا بل تنقسم ليبيا حاليا إلى وحدات أصغر من ذلك، فلكل مدينة ميليشياتها وزعاماتها وحروبها مع مدن أخرى منافسة.
أما دول الخليج، فقد استطاع الفائض المالي إبعاد انقساماتها الطائفية أو القبلية عن السطح، ولكن ليس بالإمكان التنبّؤ بكيف سيكون الوضع بعد انتهاء عصر النفط.
ولا يختلف وضع دول الإقليم غير العربية كثيرا، فتماسك إيران الحالية بمكوناتها القومية والطائفية المختلفة يعتمد على القوة العسكرية للحرس الثوري، وهذا وضع لن يدوم للأبد، وحتى استقرار تركيا بحدودها الحالية على المدى الطويل ليس مضمونا.
قبل عقود كان لدول شرق المتوسط هوية وطنية يجتمع حولها شعبها، إلى أن حدثت الردة خلال السنوات الأخيرة، وفي كل بلد كانت هناك لحظة فاصلة توضّح فيها هذا التحول. ففي لبنان كان تحرير الجنوب عام 2000 هو هذه اللحظة، عندما أصبح حزب الله خصما لكثير من اللبنانيين وحوّل سلاحه للداخل واستخدمه في مسلسل اغتيالات طالت زعماء وقادة رأي من المختلفين معه، خصوصا بعض عام 2005.
وفي العراق، بدأت مؤشرات تفكك الدولة الوطنية بالظهور مع قادسية صدام عندما قاتل عراقيون في جيش إيران وانضم إيرانيون للقتال مع العراق، وتأخر ذلك نسبيا في سوريا حتى الثورة السورية عام 2011 ولكنه أصبح أوضح الأمثلة على سقوط الدولة الوطنية.
يسير الشرق الأوسط في طريق معاكس لما يحدث في كثير من مناطق العالم، ففي القارتين الأميركيتين وأستراليا ونيوزيلندا تم بنجاح بناء دول حديثة أتى سكانها من مختلف أصقاع الأرض، ونجحوا في الاندماج والتعاون على تشكيل دول مزدهرة، وتسير أوروبا بقومياتها وطوائفها المختلفة نحو بناء كيان سياسي جامع.
وفي قلب الشرق الأوسط يوجد مثال حي على بناء دولة حديثة هو إسرائيل. وفي مقابلة أجرتها معي محطة راديو سورية خاصة قبل بضع أسابيع، كان المحاور يتجنب ذكر كلمة إسرائيل ويستعيض عنها بعبارة "الكيان"، للدلالة على قناعته بأن إسرائيل لا تستحق اسم دولة، ولكن حسب المقاييس العالمية المتعارف عليها فإن لدى إسرائيل مقومات الدولة، حيث تملك مؤسسات وقضاء مستقل وصحافة حرة وشعب يشعر بالولاء لها ورجال ونساء يموتون في سبيل الدفاع عنها.
إذا كيف استطاعت هذه الدولة بناء نفسها خلال هذه المدة القصيرة ولماذا فشل جيرانها في المحافظة على دول كانت قائمة قبلها؟ هل هناك تفاوت في درجة الشعور الوطني بين المجتمعات أو الشعوب المختلفة؟ هل لأن النظام الديموقراطي يؤمّن حماية حقوق المواطن، ويعطيه الإحساس بأن الدولة تمثله وتدافع عن مصالحه وتحميه فيشعر بالولاء لها، بينما عند غياب الديمقراطية تتفكك الدولة الوطنية إلى تقسيمات وولاءات أصغر، ولذلك تقود ديكتاتوريات الشرق الأوسط مجتمعاتها نحو مرحلة دول الطوائف والعشائر.
اقرأ للكاتب أيضا: ماذا لو فاز ترامب في انتخابات 2020؟
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).