لاجئ سوري يحاول إنقاذ ابنه من الغرق خلال انتقاله عبر البحر إلى أوروبا عام 2015
لاجئ سوري يحاول إنقاذ ابنه من الغرق خلال انتقاله عبر البحر إلى أوروبا عام 2015

د. عماد بوظو/

في سلسلة من الممارسات العنصرية والبعيدة عن الإنسانية بحق اللاجئين السوريين في لبنان تضمنت إحراق خيمهم وإهانتهم ومنعهم من التجول في بعض المناطق واستغلال أي تصرف خاطئ من أحد اللاجئين لتوظيفه في حملة كراهية وتحريض متواصلة ضدهم، برز اسم وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل كأحد قادة هذه الحملة.

تهدف هذه الحملة لإلقاء اللوم في كل ما يعانيه لبنان من مشاكل على وجود اللاجئين السوريين، بدل تحميل المسؤولية للسياسة التي يتبعها حزب الله وحليفه الجنرال ميشال عون، التي ربطت لبنان مع أنظمة مارقة معزولة دوليا وغريبة عنه ثقافيا واجتماعيا.

تجاوب بعض اللبنانيين مع تصريحات جبران باسيل بتنظيم اعتصامات أمام محال يملكها سوريون وحملوا لافتات تعبر عن رغبتهم في طردهم، واستجابة لهذا التوجه تقوم الحكومة اللبنانية يوميا بترحيل أعداد من السوريين رغم معرفتها بما الذي ينتظر اللاجئين عندما تستلمهم الاستخبارات السورية.

تقود ديكتاتوريات الشرق الأوسط مجتمعاتها نحو مرحلة دول الطوائف والعشائر

​​وفي سياق الرد على شعار الوزير باسيل: "اللبناني قبل الكل"، سارع بعض السعوديين وبينهم أمراء بالرد متسائلين عن اللبنانيين المقيمين في دول الخليج والذين تقدر أعدادهم بشعرات الآلاف والذين يقومون بتحويل مليارات الدولارات سنويا إلى لبنان، فكذلك "ابن الخليج قبل الكل"، وهناك أيضا في دول الخليج من يعزو الضائقة المالية إلى الأجانب المقيمين فيه والذين أصبحوا عبئا اقتصاديا وبشريا عليه.

في الوقت نفسه قدم المحامي المصري سمير صبري بلاغا للنائب العام يطالب فيه بالكشف عن مصادر أموال السوريين في مصر، معتبرا أنهم غزوا المناطق التجارية وحوّلوا بعض ضواحي القاهرة إلى مدن سورية، وردّت النائبة الكويتية صفاء الهاشم على المحامي المصري غامزة من قناة العمالة المصرية التي تجني مليارات الدولارات من عملها في الخليج وتقوم بإرسال كثير منها سنويا لمصر، ووصفت بعض المقيمين بالخليج بأنهم "عالة على المجتمع" تثقل كاهل الدول التي تستضيفهم.

وهناك حملة مماثلة على المصريين المقيمين في ليبيا، وعلى الليبيين المقيمين في تونس، وعلى الفلسطينيين المقيمين في جميع الدول العربية، بحيث أصبح من الواضح أن العلاقة بين شعوب الدول العربية قد تحولت من الأخوّة والمصير الواحد إلى عبء يسعى كل طرف للتخلص منه.

في اليمن، لا هدف لغالبية سكان الجنوب سوى الانفصال عن الشمال

​​لم تكتف تطورات السنوات الأخيرة بالتأكيد على موت فكرة الوحدة العربية والأمة الواحدة من المحيط إلى الخليج، بل أدّت إلى انقسام مجتمعات البلد الواحد إلى مكونات طائفية وقبلية ومناطقية متناحرة، وأصبحت محافظة كل بلد على وحدته تعتمد على قوة وتماسك مؤسسته العسكرية والأمنية، وليس على الرغبة الحرة لأبنائه، فلو توفّر على سبيل المثال مناخ مناسب للتعبير الحر عن الرأي في لبنان، لقال كثير من مواطني الجنوب اللبناني إنهم يشعرون أن ابن البحرين أو العراق أو إيران الشيعي أقرب إليهم من اللبناني ابن طرابلس، ولقال بعض سكان بيروت السنّة إن قوة السعودية تساعد في حمايتهم من لبنانيين آخرين يتربصون بهم، ولقال بعض المسيحيين إن ما يجمعهم مع أي مسيحي في العالم أكثر من ما يجمعهم مع سكان بلدهم المسلمين، ويؤكد على ذلك ما تناقله الإعلام ومواقع التواصل من قرار رئيس بلدية الحدث جورج عون بمنع المسلمين من استئجار أو شراء منازل في تلك البلدة.

أما في سوريا فالوضع أصبح مكشوفا ولا يجد أغلب السوريين حاجة للتستّر عليه، فنظام الأسد وحاضنته الطائفية لا تكتفي بالشعور بالعداء تجاه مكونات أخرى من السوريين بل جلبت وحدات عسكرية إيرانية وميليشيات شيعية خارجية وقوات روسية لقتل السوريين الآخرين. وهناك سوريين يدافعون عن أردوغان ويعتبرونه زعيمهم. ويستقبل موت أحد السوريين بالحزن في بعض المناطق وبالفرح والابتهاج في مناطق أخرى.

وهناك في العراق اليوم ثلاث أقاليم متنافرة أحدها يتحكم بمصادر القوة والثروة والآخران يتحيّنان الفرصة والظرف المناسب لأخذ حقوقهم منه. وحتى في الأردن، هناك انقسام بين الفلسطينيين والأردنيين وهو انقسام يظهر للسطح كلما سنحت الفرصة.

وفي اليمن، لا هدف لغالبية سكان الجنوب سوى الانفصال عن الشمال الذي يشعرون أنه لا يشبههم. وفي الشمال يرى الحوثيون في إيران أخا وحليفا وفي بقية اليمنيين أعداء.

والوضع في ليبيا يسير باتجاه إعادة إحياء الأقاليم القديمة التي تكوّنت منها ليبيا قبل عقود، لا بل تنقسم ليبيا حاليا إلى وحدات أصغر من ذلك، فلكل مدينة ميليشياتها وزعاماتها وحروبها مع مدن أخرى منافسة.

عند غياب الديمقراطية تتفكك الدولة الوطنية إلى تقسيمات وولاءات أصغر

​​أما دول الخليج، فقد استطاع الفائض المالي إبعاد انقساماتها الطائفية أو القبلية عن السطح، ولكن ليس بالإمكان التنبّؤ بكيف سيكون الوضع بعد انتهاء عصر النفط.

ولا يختلف وضع دول الإقليم غير العربية كثيرا، فتماسك إيران الحالية بمكوناتها القومية والطائفية المختلفة يعتمد على القوة العسكرية للحرس الثوري، وهذا وضع لن يدوم للأبد، وحتى استقرار تركيا بحدودها الحالية على المدى الطويل ليس مضمونا.

قبل عقود كان لدول شرق المتوسط هوية وطنية يجتمع حولها شعبها، إلى أن حدثت الردة خلال السنوات الأخيرة، وفي كل بلد كانت هناك لحظة فاصلة توضّح فيها هذا التحول. ففي لبنان كان تحرير الجنوب عام 2000 هو هذه اللحظة، عندما أصبح حزب الله خصما لكثير من اللبنانيين وحوّل سلاحه للداخل واستخدمه في مسلسل اغتيالات طالت زعماء وقادة رأي من المختلفين معه، خصوصا بعض عام 2005.

وفي العراق، بدأت مؤشرات تفكك الدولة الوطنية بالظهور مع قادسية صدام عندما قاتل عراقيون في جيش إيران وانضم إيرانيون للقتال مع العراق، وتأخر ذلك نسبيا في سوريا حتى الثورة السورية عام 2011 ولكنه أصبح أوضح الأمثلة على سقوط الدولة الوطنية.

يسير الشرق الأوسط في طريق معاكس لما يحدث في كثير من مناطق العالم، ففي القارتين الأميركيتين وأستراليا ونيوزيلندا تم بنجاح بناء دول حديثة أتى سكانها من مختلف أصقاع الأرض، ونجحوا في الاندماج والتعاون على تشكيل دول مزدهرة، وتسير أوروبا بقومياتها وطوائفها المختلفة نحو بناء كيان سياسي جامع.

تماسك إيران الحالية بمكوناتها القومية والطائفية المختلفة يعتمد على القوة العسكرية للحرس الثوري

​​وفي قلب الشرق الأوسط يوجد مثال حي على بناء دولة حديثة هو إسرائيل. وفي مقابلة أجرتها معي محطة راديو سورية خاصة قبل بضع أسابيع، كان المحاور يتجنب ذكر كلمة إسرائيل ويستعيض عنها بعبارة "الكيان"، للدلالة على قناعته بأن إسرائيل لا تستحق اسم دولة، ولكن حسب المقاييس العالمية المتعارف عليها فإن لدى إسرائيل مقومات الدولة، حيث تملك مؤسسات وقضاء مستقل وصحافة حرة وشعب يشعر بالولاء لها ورجال ونساء يموتون في سبيل الدفاع عنها.

إذا كيف استطاعت هذه الدولة بناء نفسها خلال هذه المدة القصيرة ولماذا فشل جيرانها في المحافظة على دول كانت قائمة قبلها؟ هل هناك تفاوت في درجة الشعور الوطني بين المجتمعات أو الشعوب المختلفة؟ هل لأن النظام الديموقراطي يؤمّن حماية حقوق المواطن، ويعطيه الإحساس بأن الدولة تمثله وتدافع عن مصالحه وتحميه فيشعر بالولاء لها، بينما عند غياب الديمقراطية تتفكك الدولة الوطنية إلى تقسيمات وولاءات أصغر، ولذلك تقود ديكتاتوريات الشرق الأوسط مجتمعاتها نحو مرحلة دول الطوائف والعشائر.

اقرأ للكاتب أيضا: ماذا لو فاز ترامب في انتخابات 2020؟

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.