إيرانية تبكي ضحايا الحرب العراقية ـ الإيرانية
إيرانية تبكي ضحايا الحرب العراقية ـ الإيرانية

عمران سلمان/

الكل يقول بأنه لا يريد حربا في المنطقة، ولكن لا أحد يعمل مع ذلك من أجل إحلال السلام. المسؤولون الإيرانيون والسعوديون والأميركيون، يغدون جيئة وذهابا في كل الاتجاهات، تسبقهم تصريحاتهم واستعداداتهم العسكرية، ومع ذلك فإن خلاصة كل تصريح هي أن الحرب تبقى الملاذ الأخير وأن الأولوية هي لحل النزاع بصورة سياسية أو دبلوماسية.

النار تحت الرماد

إن المتابع لما يجري في المنطقة، لا يمكنه أن يخطئ إدراك، أنه رغم الرماد المتناثر على سطح الأزمة في الخليج، فإن ثمة إحساس بوجود نار تضطرم تحته، وأن ما يحاول أن يخفيه الإسراف في الاعتماد على استخدام الألفاظ، هو مجرد حقيقة أن لا أحد يريد أن يبدأ الحرب أو يكون متسببا فيها بصورة مباشرة.

وهذا يعني باختصار أن عدم الرغبة في الحرب لا تعادل الرغبة في السلام. وإنما هي استكمالا للتحضير للحرب ولكن بطرق أخرى.

الأيديولوجية تجعل الأزمات السياسية تبدو وكأنها قضايا وجودية

​​بخلاف ذلك، وبخلاف الأزمات الأخرى، حيث ثمة عجلة دبلوماسية وسياسية معروفة تنطلق عادة لمحاولة جمع طرفي النزاع إلى طاولة المفاوضات؛ إلا في الأزمة الحالية، فلا يبدو أن أحدا (من الأطراف نفسها على الأقل) يؤمن أو يرغب في الاستثمار في السلام.

طبعا هناك، على الجانبين، من لا يرى أية إمكانية لتحقيق السلام في ظل حالة الاستقطاب والعداء الشديدين السائدة حاليا. وهناك من يتوق إلى الحل العسكري الذي يعتبره كفيلا بحل هذا النزاع وكل نزاع. ولذلك يدفع هؤلاء في كل مناسبة الأمور إلى حافة الهاوية، سواء عبر الأقوال أو الأفعال، ومن دون اكتراث للنتائج والعواقب الوخيمة على الجميع.

الحروب لا تحل الأزمات

إن الشواهد التاريخية الكثيرة، ولا سيما في منطقتنا العربية، تظهر بأن الحروب، في الغالب الأعم، لا تحل أية أزمة في حقيقة الأمر. إنها قد تخضع طرفا لطرف آخر بعض الوقت، وربما يتم عبرها تحقيق بعض المكاسب الآنية، لكن بعد مضي مزيد من الوقت، يتبين أن الحروب تخلق ظروفا وواقعا أسوء من ذي قبل.

في المقابل قد يبدو طريق المفاوضات أنه تمييع لأزمة قائمة بالفعل أو يأتي بأقل مما يتوقعه طرفا النزاع من مكاسب، لكنه على المدى البعيد، يسمح لديناميكيات مجتمعية وإقليمية ودولية معينة بالعمل، وبما يحقق نتائج أنضج وأكثر رسوخا مع مرور الوقت. ولعل جزءا من الملفات المهمة التي لا تزال مفتوحة اليوم في عدد من البلدان العربية، وما يحيط بها من تعقيدات، إنما يعود إلى الطريقة العنيفة التي جرى التعامل بها مع الأزمات التي نجمت عنها والتي كان يمكن حلها بصورة مختلفة.

الأيديولوجية مرض العصر

في الحقيقة إن معظم الأزمات في العالم يمكن حلها عبر التفاوض، لكن ثمة أزمات تبدو مستعصية. وأحد أسباب ذلك الاستعصاء يعود إلى تحويلها إلى صراع أيديولوجي.

فالأيديولوجية تجعل الأزمات السياسية تبدو وكأنها قضايا وجودية، لا يمكن حلها إلا بإزالة أحد طرفي النزاع. وبالطبع هذه الإزالة لا تتم إلا عبر استخدام القوة.

والمؤسف أن الثقافة السائدة في الشرق الأوسط، تميل إلى تشجع تحويل نمط النزاعات المختلفة إلى قضايا يستحضر فيها الدين والقومية والعصبية والعرق ونظريات المؤامرة بكثافة.

إن كان هناك من يعتقد واهما بأنه مستفيد من هذه الأزمة، فإن الخاسرون كثيرون

​​فحين يتم النظر إلى أي صراع سياسي بين دولتين، أو داخل الدولة الواحدة، باعتباره تجل لصراع بين محورين إقليميين أو دوليين أو أكثر، من الطبيعي أن يعجز الجميع عن إيجاد أي حل لهذا الصراع. بل من الطبيعي أن تصعب السيطرة عليه أو احتواءه، سواء بسبب كثرة الداخلين على خط هذا الصراع، أو بسبب الاتجاه إلى محاكمة النوايا والاعتقادات، وزرع الريبة والشك. وفي الأخير فإن ما بدأ صراعا سياسيا بين دول، يتحول إلى أشبه بصراع بين قبائل متناحرة.

التفكير خارج الصندوق

أعلم أنه سوف يكون من الصعوبة بمكان توقع أن تجد الأزمة الحالية في المنطقة حلها عبر الحوار والمفاوضات، ولأسباب كثيرة، ذكرت بعضها أعلاه، لكني أجد أن من المهم التفكير خارج الصندوق، وإجراء صياغة مفاهيمية جديدة لهذه الأزمة، والنظر لها بمنظار المصالح وليس العواطف أو العصبيات الدينية والقبلية. إن عملية كهذه من شأنها أن تقود إلى تفكيك الأسباب الحقيقية الكامنة وراءها ومعالجة كلا منها على حدة، بدلا من إعطائها الطابع الشمولي والقطعي الحالي.

والأهم أن تقرن مختلف الأطراف أقوالها بالأفعال وتكون مستعدة للاستثمار في السلام، بدلا من دق طبول الحرب أو ترك اشتعالها للصدفة، فالأمر الواضح أنه وإن كان هناك من يعتقد واهما بأنه مستفيد من هذه الأزمة، فإن الخاسرون كثيرون وأولهم شعوب المنطقة ودولها.

اقرأ للكاتب أيضا: توضيح على مقال 'ولا الزمن الجميل كان الأصل الثابت'

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.