ناريمان، أرملة أحد مقاتلي المعارضة السوري وأولادها في مخيم الزعتري
ناريمان، أرملة أحد مقاتلي المعارضة السوري وأولادها في مخيم الزعتري

كوليت بهنا/

أهم وأسمى ما حققته السينما عبر تاريخها من أهداف متعددة، بالإضافة إلى المتعة الحسية والفكرية والبصرية، كان ولا يزال قدرتها السلسة واللامتناهية على الإضاءة على حالات إنسانية منسية أو مهمشة أو تتعرض لمظلومية ما بشكل أو بآخر، فتظل حاضرة في الذاكرة الجماعية للبشرية، ولا تنتهي بالتقادم الزمني مع استمرار ظهور حالات مشابهة مستجدة تفرزها الحياة كل يوم.

من روائع هذه الأفلام، الفيلم اليوناني الشهير "زوربا" سنة 1964، أحد أجمل الأفلام الكلاسيكية العالمية، المأخوذ عن رواية الكاتب اليوناني العالمي نيكوس كازانتزاكيس، وبطولة النجمين أنطوني كوين وإيرين باباس، الذي سلط الضوء والاهتمام، قبل خمس وخمسين عاما، على مظلومية المرأة الأرملة وفقا للأعراف الاجتماعية ـ الدينية المسيحية الأرثوذكسية القاسية، التي كانت سائدة في الريف اليوناني بشكل أكبر، والتي أماتت المرأة الأرملة في الحياة، ومن ثم قررت لاحقا رجمها حتى الموت بتهمة الحب والزنا، مع تخاذل شريكها عن التدخل أو إنقاذها، رغم أنها كانت امرأة حرة قانونيا.

الأرملة تعيش القهر مضاعفا بغياب شريك حياتها ووالد أطفالها

​​يحضرني هذا الفيلم مع إحياء اليوم العالمي للأرامل في 23 حزيران/يونيو، وهو اليوم الذي أقرته الأمم المتحدة سنة 2011 كيوم عالمي يهدف إلى لفت الأنظار إلى واقع الأرامل وأطفالهما، وسعيا لتخفيف المعاناة التي يواجهونها، وهي معاناة تزداد اليوم وطأة في ظل ازدياد عدد الأرامل (النساء بشكل أكبر) بسبب أعمال العنف والإرهاب في العالم عموما، وبسبب استمرار الحروب في سوريا والعراق واليمن وليبيا بشكل خاص، مع التعامل مع نساء المفقودين والمعتقلين على أنهن شبه أرامل.

وإن كانت الحكومات الرسمية التي تخوض الحروب مع أطراف أخرى تمتلك القدرة على توثيق عدد قتلاها وبالتالي عدد الأرامل، إلا أن الأطراف غير الرسمية المشاركة في الحروب ما زالت هي ومنظمات المجتمع المدني الحقوقية والقانونية، تقف عاجزة عن توثيق الأرقام الدقيقة لعدد الأرامل، لكنها تشير دوما إلى أنها ستكشف حتما مع توقف الأعمال الحربية ويرجح أنها ستكون مهولة.

ترمل النساء وفقدان أزواجهن بسبب الأعمال الحربية، أو نتيجة لوفاة الأزواج بأسباب طبيعية أو أي سبب آخر، لا يختلف تأثير وقوعه عليهن كثيرا في العديد من مجتمعات دول العالم. وفي جميع الحالات، هنّ نساء يصرن بين ليلة وضحاها عرضة لظلم اجتماعي وأسري أكبر، إضافة إلى قهر مستمر وفاقة وعوز لهن ولأطفالهن.

ورغم أن النساء، مع اختلاف أوضاعهن الاجتماعية، ما زلن ضحايا للتمييز الجندري وكافة أشكال التمييز ضدهن، إلا أن وضع المرأة الأرملة هو الأكثر صعوبة، تنطلق بداية مرارته من نظرة عائلة الزوج المتوفى لها، وتحميلها بشكل مباشر أو غير مباشر مسؤولية وفاة الزوج باعتبارها "نحسا عليه"، واضطرارها إلى الخضوع لكافة الإجراءات القانونية والشرعية التي تبيح لعائلة الزوج المتوفى، ومن خلفها المجتمع وأعرافه وقوانينه، حرمانها من الأطفال أو الوصاية عليهم مباشرة أو عبر قاض شرعي، أو إجبارها على الزواج من شقيق زوجها المتوفى في بعض المجتمعات والأعراف الدينية، أو رفض أهلها لاستقبالها مع أطفاها، ومراقبة حياتها وأنفاسها، وأي محاولة منها للخروج خارج دائرة السواد التي تحاط بها، والاستمرار في الحياة بشكل طبيعي، أو التفكير بزواج آخر.

تعتبر هذه السلسلة الاجتماعية هذه المحاولات أسبابا لنتائج أشد قسوة وترى فيها خيانة للزوج المتوفى، وكأن هذه السلسلة الاجتماعية الظالمة تتمنى لو تسعى إلى دفن هذه الزوجة في الحياة؛ وهي أمنية كانت إلى زمن غير بعيد، تعتبر إحدى العادات والأعراف المتفق عليها في بعض المجتمعات من بينها الهندوسية، حيث يطلب من المرأة، طوعا أو إكراها، حرق جثتها إلى جانب جثة زوجها الميت لإثبات حبها ووفائها له!

الأرملة، التي تعيش القهر مضاعفا بغياب شريك حياتها ووالد أطفالها، يزداد وطء هذا القهر عليها مع غياب القوانين الصارمة التي تحفظ لها حقوقها في الإرث العادل وحقوق أطفالها وأبسطها تأمين لقمة عيشهم، ومن أكثر الحالات التي سجلت فيها انتهاكات جنسية وتحرشات فاقعة ضد النساء، كانت بحق النساء الأرامل أو بناتهن، وتعرضهن لمقايضات المخزية مقابل الطعام، ولا تختلف في التعرض لهذه السلوكيات المشينة النساء أرامل رجال الحروب، أو أرامل رجال ماتوا طبيعيا، ورغم أن النبي محمد (ص) قال: "أما اليتيم فلا تقهر"، لا يكترث أو ينتبه كثيرون أن قهر هذا اليتيم يكون في الأغلب بقهر أمه أمام عينيه.

ليس في يد إنسان إيقاف الموت الطبيعي، لكن بإمكان البشرية التخفيف من أعمال العنف والجريمة والحروب

​​وفي حين تستنفر عائلة الرجل الأرمل، وجميع أصدقائه وأقاربه للسعي إلى تزويجه بامرأة أخرى بعد فترة قصيرة جدا، والنظر إليه بشفقة ورحمة لأنه سيرتبك بتربية الأطفال ولا يفقه في الطبخ وباقي أعمال المنزل، وتمنح حاجاته الجنسية التي فقدها الاعتبار الأكبر، على مبدأ المثل الاجتماعي الدارج "أعزب دهر ولا أرمل شهر"، تحرم المرأة الأرملة من جميع هذه الامتيازات أو النظرة العادلة لكينونتها الإنسانية واحتياجاتها، وتعامل معاملة كائن ناقص في المجتمع، مستضعف، وقابل للانتهاك والرجم بأشكال مختلفة.

ليس في يد إنسان إيقاف الموت الطبيعي، لكن بإمكان البشرية لو شاءت التخفيف من أعمال العنف والجريمة والحروب وأسبابها، والحد من نتائجها الكارثية وفي مقدمها عدد الأرامل والأطفال اليتامى. تعرّف اللغة العربية الترمل في إحدى تفرعاتها اللغوية بأن "الترمل من الأعوام" يعني أعواما قليلة المطر والنفع والخير، فإن كانت اللغة العربية تظلم فعل الترمل بهذه التفاسير، فلا غرابة من سلوك البشرية التي اخترعت اللغات والقسوة.

اقرأ للكاتب أيضا: امتلاك سر البهجة

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.