جندي عراقي يحرس السفارة البحرينية في بغداد
جندي عراقي يحرس السفارة البحرينية في بغداد

مشرق عباس/

ليس الخبر أن سفارة أجنبية في بغداد قد اقتحمت على يد متظاهرين، تماما كما لم يكن الخبر قبل نحو عام أن قنصلية حرقها متظاهرون في البصرة، فالأصل من وجهة نظر رسمية أن أمن السفارات والممثليات الأجنبية ليس مضمونا في العراق، فيما الأصل من زاوية الرسائل السياسية يتعلق بمعنى الرسالة ومن يريد إيصالها وإلى من؟

في بغداد كان متظاهرون محتجون على ورشة البحرين الأخيرة، يقتحمون السفارة البحرينية ويرفعون العلم الفلسطيني بدلا عن العلم البحريني، وتجير القضية لصالح غضب شعبي من صفقة القرن، وتؤكد الحكومة التزامها بأمن السفارات، وترد بشكل متواصل ردود الفعل، في غالبها مندد بالحادث، وبعضها يحاول التقليل من شأنه عبر مقارنته بحادث اقتحام متظاهرين للقنصلية الإيرانية في البصرة وإحراقها في مثل هذه الأيام من العام الماضي.

المغامرة في جوهرها تضعف موقف الحكومة العراقية

​​بالطبع لم تصدق إيران أبدا أن إحراق قنصليتها في البصرة قد كان فعلا عفويا داخليا، ولأنها لم تصدق، فلم تكن معنية بقراءة دلالات تلك الحادثة ولا الخلفيات التي قادت إليها، بل إن السيناريو العجائبي الذي سيق حينها عن تورط "عملاء" تابعون إلى القنصلية الأميركية يبدو أنه وجد آذانا صاغية لمن يسعى إلى إنكار الوقائع لا تحليلها.

في حادثة الخميس الماضي ضد السفارة البحرينية، التي نأمل أن تكون نهاية مسلسل استهداف السفارات في بغداد وألا تكون بدايته، جرى الترويج لسيناريو آخر لا يقل عجائبية؛ فالشباب المتحمس الثوري هالته ورشة عمل في المنامة وعرف تفاصيل صفقة القرن، فقرر التظاهر واقتحام السفارة نصرة للقضية الفلسطينية!

العجيب أن مثل هذا الحديث ليس متداولا على المستوى الشعبي العراقي وفق الصيغة المبالغ في غضبها التي حدثت، فالشارع العراقي يراقب رقصات الحرب الإيرانية ـ الأميركية في الخليج، وتتراقص أمامه صفقات اقتسام الوزارات والمناصب، وتجبره حرارة الصيف وفشل قطاع إنتاج الطاقة الكهربائية على الرقص كل يوم مترنحا، لكنه ينظر بشكوك إلى معطيات ما يسمى "صفقة القرن" أيضا، حاله حال شوارع المنطقة برمتها، كالشارع الإيراني مثلا، أو الشارع اللبناني، أو الأردني أو الشارع الفلسطيني نفسه، وتلك الشكوك لم ترق إلى فورة غضب في المنطقة وبالتأكيد ليس في العراق!

وإذا كان الفشل الرسمي في إدارة أزمة الطاقة والخدمات وإيقاف الفساد، شكل غطاء بشكل أو آخر لأحداث 2018 كسلسلة تداعيات شعبية لا يمكن فصلها، وإن كان انفلاتها في ذلك الحين يمنح سوابق مدانة تضر ولا تنفع، فإن القوى التي دفعت إلى اقتحام السفارة البحرينية لا تحمل أي غطاء من أي نوع خصوصا أنها جزء من السلطة، وتبدو أحيانا متحكمة في قرارها!

وبعيدا عن المقارنات غير المفيدة، فإن الحادث في جوهره يرتب المزيد من الأعباء على الحكومة العراقية التي أجبرت السفارات المختلفة على رفع الحواجز الكونكريتية حول مقراتها والتعهد في المقابل بتأمينها، وهي تبدو اليوم مرتبكة إزاء الرسائل الخارجية التي أريد تمريرها عبر المغامرة بإثارة فزع وردود فعل كل سفارات العالم، في حي يضم عشرات من مقرات إقامة البعثات الدبلوماسية.

الحادث في جوهره يرتب المزيد من الأعباء على الحكومة العراقية

​​والأكثر أن المغامرة في جوهرها تضعف موقف الحكومة العراقية التي أرادت القول بشكل ما، مؤخرا، إنها ستلتزم المواقف التوفيقية في صراع المنطقة، ولكنها مع ذلك عاجزة عن كشف منفذي هجمات الصواريخ على مواقع نفطية ومقر السفارة الأميركية ومعسكرات للجيش من البصرة إلى الموصل. وعندما تكون تلك الرسائل العنيفة مكشوفة الهدف والسياق وخطيرة في دلالاتها، "تفاجأ" الحكومة هذه المرة بسيناريو "الغضب الشعبي" باعتباره مستوى مختلفا من الرسائل.

إنها محنة حقا للمتصدين لها، والعاجزين عن مواجهتها، وهي محنة أخلاقية ووطنية ووجودية، لأنها، في الصميم، لا تتعلق بحوادث اقتحام السفارات عبر العالم، ولا بالغضب، ولا بالعنف الشعبي، ولا حتى بالمزاج العراقي المضطرب باضطراب مناخه، بل بما يفكر الآخرون خارج الحدود، وإلى أي سقف يمكنهم الوصول في المغامرة بالمقدرات العراقية.

اقرأ للكاتب أيضا: مواجهة الخليج.. ليست بلا أثمان

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.