ليس الخبر أن سفارة أجنبية في بغداد قد اقتحمت على يد متظاهرين، تماما كما لم يكن الخبر قبل نحو عام أن قنصلية حرقها متظاهرون في البصرة، فالأصل من وجهة نظر رسمية أن أمن السفارات والممثليات الأجنبية ليس مضمونا في العراق، فيما الأصل من زاوية الرسائل السياسية يتعلق بمعنى الرسالة ومن يريد إيصالها وإلى من؟
في بغداد كان متظاهرون محتجون على ورشة البحرين الأخيرة، يقتحمون السفارة البحرينية ويرفعون العلم الفلسطيني بدلا عن العلم البحريني، وتجير القضية لصالح غضب شعبي من صفقة القرن، وتؤكد الحكومة التزامها بأمن السفارات، وترد بشكل متواصل ردود الفعل، في غالبها مندد بالحادث، وبعضها يحاول التقليل من شأنه عبر مقارنته بحادث اقتحام متظاهرين للقنصلية الإيرانية في البصرة وإحراقها في مثل هذه الأيام من العام الماضي.
بالطبع لم تصدق إيران أبدا أن إحراق قنصليتها في البصرة قد كان فعلا عفويا داخليا، ولأنها لم تصدق، فلم تكن معنية بقراءة دلالات تلك الحادثة ولا الخلفيات التي قادت إليها، بل إن السيناريو العجائبي الذي سيق حينها عن تورط "عملاء" تابعون إلى القنصلية الأميركية يبدو أنه وجد آذانا صاغية لمن يسعى إلى إنكار الوقائع لا تحليلها.
في حادثة الخميس الماضي ضد السفارة البحرينية، التي نأمل أن تكون نهاية مسلسل استهداف السفارات في بغداد وألا تكون بدايته، جرى الترويج لسيناريو آخر لا يقل عجائبية؛ فالشباب المتحمس الثوري هالته ورشة عمل في المنامة وعرف تفاصيل صفقة القرن، فقرر التظاهر واقتحام السفارة نصرة للقضية الفلسطينية!
العجيب أن مثل هذا الحديث ليس متداولا على المستوى الشعبي العراقي وفق الصيغة المبالغ في غضبها التي حدثت، فالشارع العراقي يراقب رقصات الحرب الإيرانية ـ الأميركية في الخليج، وتتراقص أمامه صفقات اقتسام الوزارات والمناصب، وتجبره حرارة الصيف وفشل قطاع إنتاج الطاقة الكهربائية على الرقص كل يوم مترنحا، لكنه ينظر بشكوك إلى معطيات ما يسمى "صفقة القرن" أيضا، حاله حال شوارع المنطقة برمتها، كالشارع الإيراني مثلا، أو الشارع اللبناني، أو الأردني أو الشارع الفلسطيني نفسه، وتلك الشكوك لم ترق إلى فورة غضب في المنطقة وبالتأكيد ليس في العراق!
وإذا كان الفشل الرسمي في إدارة أزمة الطاقة والخدمات وإيقاف الفساد، شكل غطاء بشكل أو آخر لأحداث 2018 كسلسلة تداعيات شعبية لا يمكن فصلها، وإن كان انفلاتها في ذلك الحين يمنح سوابق مدانة تضر ولا تنفع، فإن القوى التي دفعت إلى اقتحام السفارة البحرينية لا تحمل أي غطاء من أي نوع خصوصا أنها جزء من السلطة، وتبدو أحيانا متحكمة في قرارها!
وبعيدا عن المقارنات غير المفيدة، فإن الحادث في جوهره يرتب المزيد من الأعباء على الحكومة العراقية التي أجبرت السفارات المختلفة على رفع الحواجز الكونكريتية حول مقراتها والتعهد في المقابل بتأمينها، وهي تبدو اليوم مرتبكة إزاء الرسائل الخارجية التي أريد تمريرها عبر المغامرة بإثارة فزع وردود فعل كل سفارات العالم، في حي يضم عشرات من مقرات إقامة البعثات الدبلوماسية.
والأكثر أن المغامرة في جوهرها تضعف موقف الحكومة العراقية التي أرادت القول بشكل ما، مؤخرا، إنها ستلتزم المواقف التوفيقية في صراع المنطقة، ولكنها مع ذلك عاجزة عن كشف منفذي هجمات الصواريخ على مواقع نفطية ومقر السفارة الأميركية ومعسكرات للجيش من البصرة إلى الموصل. وعندما تكون تلك الرسائل العنيفة مكشوفة الهدف والسياق وخطيرة في دلالاتها، "تفاجأ" الحكومة هذه المرة بسيناريو "الغضب الشعبي" باعتباره مستوى مختلفا من الرسائل.
إنها محنة حقا للمتصدين لها، والعاجزين عن مواجهتها، وهي محنة أخلاقية ووطنية ووجودية، لأنها، في الصميم، لا تتعلق بحوادث اقتحام السفارات عبر العالم، ولا بالغضب، ولا بالعنف الشعبي، ولا حتى بالمزاج العراقي المضطرب باضطراب مناخه، بل بما يفكر الآخرون خارج الحدود، وإلى أي سقف يمكنهم الوصول في المغامرة بالمقدرات العراقية.
اقرأ للكاتب أيضا: مواجهة الخليج.. ليست بلا أثمان
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).