التشاؤم أم التفاؤل مسألة طبع، ويقول المثل العربي المعروف "الطبع غلب التطبع". يحكى أن الشاعر ابن الرومي كان إذا رأى قطا أسود وهو خارج من الدار، عاد إليها ولم يخرج منها طوال اليوم. على نقيض ذلك، ما زال كثيرون يعتقدون أنه إذا قضى طائر حاجته على سيارة أو بزة، فإنها إشارة من السماء أن "الرزقة" آتية.
لكن الوقائع تثبت مرة تلو الأخرى أنه لا رؤية قط أسود تجلب النحس، ولا فضلات الطيور التي تتساقط على سيارة أو عابر سبيل في موسم هجرة أسراب السنونو تجلب دولارا واحدا أكثر مما يكسبه المرء بكد يمينه وعرق جبينه، بل تضطر متلقيها عادة إلى أخذ سيارته إلى ورشة غسل السيارات أو بزته إلى محل التنظيف والكوي على البخار، متكبدا نفقة بدل الرزقة.
الأمثال العربية التي ركزت على التطير عديدة، نذكر منها على سبيل المثال، لا الحصر: "المنحوس منحوس ولو علقوا له فانوس" و"عين الحسود فيها عود" و"تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" ولا يستحسن أم نذكر أكثر لأن بعضها غير لائق.
في الواقع، جاءت كلمة "التطير" من تخوف العرب من بعض أنواع الطيور، فمن المعروف مثلا أن العرب كانوا يتشاءمون من الغراب، رغم أن الغراب طائر ذكي في حقيقة الأمر. يكن "البارسيون" للغراب احتراما استثنائيا، إذ تتضمن طقوسهم ترك جثة الميت معلقة على أغصان شجرة حتى تأكلها الغربان، آملين بتناسخ الأرواح بفضل هذه النهاية النقيضة لدفن الميت في قبر تحت التراب ليتحلل جسده ويلتهمه الدود.
أما التشاؤم من الغراب فليس مقتصرا على العرب، إذ يذكر قراء الأدب قصيدة إنكليزية مشهورة جدا أبدعها خيال إدغار ألن بو وأسماها "الغراب"، تسودها مسحة سوداوية، وتحفل بصور شعرية قاتمة.
يتشاءم العرب أيضا من طائر البوم، رغم أن نخبة من المبدعين والمبدعات في العالم ـ وفي طليعتهم الأديبة العربية اللامعة غادة السمان ـ يتفاءلون بالبومة ويرون فيها، على نقيض الصورة الشائعة عند عامة الناس، رمزا للحكمة.
أما أسراب السنونو، فتعكس صورتين متناقضتين: رحيلها يدل على هجرة تدعو للتشاؤم، وعودتها تبعث على التفاؤل بتغير الفصول وازدهار الربيع.
بالمقابل، تكتسب المخلوقات الأرضية سمة التفاؤل، فتعتبر السلحفاة مصدرا للسعادة، بحيث يربيها بعضهم في البيوت كحيوان أليف. لوجه الغرابة، لا يعتبر حتى الحنش (أي الثعبان الأسود) مثيرا للتشاؤم، بل مصدرا للتفاؤل، وذلك بناء على أسطورة قديمة تفيد بأنه المخلوق الذي أنقذ طوف النبي نوح من الغرق عندما سد بجسمه ثقبا في الطوف.
من المعروف أيضا أن السحلية تغير لون جلدها للتأقلم مع البيئة التي تعيش فيها، فتتخذ لونا ترابيا حين تكون في الرمل، ولونا مخضرا حين تكون بين الأعشاب وأوراق الشجر، فيقول المثل الشعبي: "حرباية ورجيني بختي". في بعض بلدان العالم، يربى "الإيغوانا" رغم منظره المنفر كحيوان أليف، إذ يعتقد أصحابه أنه يجلب لهم الفأل الحسن.
بعيدا عن عالم المخلوقات الطائرة والزاحفة، يشاع أن طنين الأذن يدل على أن أحدا ما يستغيبك، ولكن هل يمكن لأحد الجزم فيما إذا كانت تلك الاستغابة بالخير أم بالشر؟ من الشائع أيضا ارتباط اللون الأبيض بالتفاؤل، واللون الأسود بالتشاؤم، لكن هناك استثناءات لدى بعض الشعوب والأقوام والقبائل بحيث تؤمن بالعكس.
نلاحظ أن اللون الشائع في منطقة الشرق الأوسط يزداد سوادا في أزياء الشعوب كلما اتجهنا جغرافيا نحو الشرق، فيزداد الندب واللطم والبكاء وقصص المآسي المفجعة. بالتالي، عندما تزحف قوى الشرق إلى الغرب، فإنها تطبعه بطابعها الأسود الدموي، بينما كثيرا ما يردد نقاد الفن التشكيلي أن الألوان الحارة والمبهجة في لوحة هي ألوان البحر الأبيض المتوسط، التي توحي بها شواطئ سوريا ولبنان وإيطاليا وفرنسا وتركيا واليونان وقبرص وتونس وإسبانيا وسواها من بلدان تطل على تلك المياه الدافئة.
تختلف التقاليد بين بلد وآخر، فكثيرا ما تقدم في البلدان العربية باقات تهنئة من زهور وزنابق صفراء. أما في فرنسا، فتعتبر الزهور الصفراء نذير شؤم ينذر بالموت، بحيث ينهى اجتماعيا أن تقدم في مناسبة تهنئة بزفاف أو بوليد جديد أو بإبلال من مرض.
يعتبر بعض الناس في الشرق الأوسط نثر الملح أمام الدار مانعا لسوء الحظ وحاميا لأهل الدار. أما خلال السنوات التي قضيتها في شيكاغو، فتعلمت أن الحظ الوحيد الحسن الذي يجلبه نثر الملح أمام مدخل الدار هو عدم التزحلق وكسر الساق بسبب الثلج الذي يتحول بسبب البرد القارس إلى جليد.
عندما يرى المرء حذاء أو صندلا أو شبشبا مقلوب الفردة، فإن الاستنتاج الشائع أنه على سفر وسيغيب عن منزله فترة من الزمن. أما العبث بمقص أو تركه مفتوحا فيعتقد أنه يجلب الشر أو يؤدي إلى الخصام.
من الشائع أيضا في بلادنا العربية أنه إذا فقد أحدهم غرضا، ينصح أن يتلو المرء سورة "والضحى.." فإذا بالغرض يظهر ويبان.
يعتقد البوذيون أن لمس بطن تمثال بوذا يجلب الحظ الحسن، وأعترف أنني لم أترك بطنا من بطون تماثيل بوذا خلال زياراتي المتعددة إلى معابد في الصين وتايلاند إلا ولمسته بدل المرة مرات عدة، لكن ذلك لم يجلب لي شيئا سوى الصبر على تحمل الشدائد، والحلم بانفراج مستقبلي لم يتحقق حتى الآن.
هناك مئات الخرافات العربية التي تتعلق بجلب الحظ أو النحس، تتضمن تعليمات تفصيلية تنطلق من هذا الإيمان أو ذاك، منها ضرورة ولوج الحمام بالقدم اليمنى لإبعاد الأشباح، وتجنب الاستحمام ليلا بالمياه الساخنة لأنه يجلب الجن. لكن، ماذا نقول عن عادة اليابانيين في أن يستحموا ليلا قبل أن الإيواء إلى الفراش؟ وهل اعتاد الأميركيون على أخذ "الدوش" صباحا قبل الانطلاق إلى أعمالهم خشية من الجن؟
بالتأكيد، لم تحل لعنة عفاريت أو أشباح باليابان بحيث تمنعها من التقدم علميا وتكنولوجيا، ولم يكافأ الأميركيون على "الدوش" الصباحي بأية ميزات تخفض من ارتفاع الضرائب وتؤمن فرص عمل للعاطلين.
رغم ذلك، تركز بعض نظريات التشاؤم على لعنة تحل بالمرء من قبل قوى غيبية، غامضة ومجهولة، تشبه مخلوقات أفلام الخيال العلمي في الأفلام السينمائية. تنقسم اعتقادات التشاؤم والتفاؤل إلى تراث يتخذ طابعا شبه ديني، وإن غلبت عليه سمة البدع، وإلى أعراف شعبية شائعة. حاول بعضهم إسباغ صفة القداسة عليها دون مرجع أو برهان.
ترى، ما هو تقييم عصرنا المتسم بتقدمه العلمي والتكنولوجي لخرافات التشاؤم والتفاؤل؟ هل تصدق معرفة الطالع عبر الأبراج أو من خلال قراءة الكف أو إلقاء الودع؟ هل تساعد على اختيار ورقة يانصيب رابحة تحول "المديونير" إلى "مليونير"؟ ما هو وجه الخير أو الشر في تفسيرنا لانقطاع الكهرباء ساعات طويلة في بعض البلدان التي تعاني من أزمة داخلية أو فساد مستشر؟ هل يرتبط بالغيبيات فقدان البنزين من الكازيات بحيث عادت الشعوب أكثر من قرن إلى الوراء وأحيت استخدام الدولاب والدواب؟ هل من علاقة للتشاؤم أو التفاؤل بتراكم النفايات بحيث تفوح روائحها وتنشر الأوبئة، أو الوقوف ساعات أمام الأفران في انتظار الدور لتحصيل بعض الخبز لإطعام عائلات لا تكف عن الإنجاب؟ يبدو أن خرافة اللعنة انحصرت ببلدان "المعذبين في الأرض"، حيث صار الاستحمام بالماء الساخن رفاهية، ووصول الكهرباء مناسبة، وتوفر الإنترنت يستحق الاحتفال.
بالتالي، يمكننا ربط نظريات التشاؤم والتفاؤل في عصرنا بما تعانيه معظم شعوب العالم النامي، وحتى بعض قطاعات البشر المحرومة في دول متقدمة في الغرب والشرق تتعمق فيها الهوة بين الأغنياء والفقراء. يصعب تصور سمة غيبية أو مقدسة وراء ما يدعو إلى التشاؤم أو التفاؤل في عصرنا الراهن، فكلاهما طبع بشري يستند إلى ذاكرة خيال شعبي خصب، يثيره تفاقم المعاناة المعاشية وسط ظروف قاسية.