كشفت الحركة الإسلامية في الأردن عن وثيقتها السياسية الجديدة التي طال انتظارها وكثر التبشير بها، بوصفها تختصر مراجعات جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي وكتلتها البرلمانية، لتجربة الحركة في السنوات العشر الفائتة، وما تخللها من أحداث وتطورات عاصفة في الأردن والإقليم، وما رافقها، كأي تجربة، من خطأ وصواب، باعتراف الوثيقة ذاتها.
تحدثت الوثيقة عن أخطأ اقترفتها الجماعة من دون أن تأتي على ذكرها أو تتقدم بتفسير لها أو شرح لنتائجها، تقول الوثيقة: "أصابت الحركة في كثير من الأحيان، وأخطأت في أحيان أخرى... لكنها سعت على الدوام استدراك الأخطاء، واستخلاص الدروس والعبر"... لم تأت الوثيقة على أي من هذه الأخطاء، ولم تعرض لأي من الدروس والعبر المستخلصة، وتلكم إشكالية معرفية كبرى.
لا شك أن الوثيقة استبطنت الكثير من المواقف والرؤى غير المألوفة في خطاب "الجماعة"، بل ويمكن القول، إن الجماعة بنتيجة مراجعاتها، أقدمت على "استعارة" كثير من المبادئ والمفاهيم من خطاب خصومها ومجادليها من علمانيين ويساريين و"مدنيين ـ ديمقراطيين"، وسعت في "تأصيلها" دينيا بالاستناد إلى مرجعيتها الإسلامية، أحيانا ببعض التوفيق وأحيانا أخرى من دون برهان، ولا غضاضة في ذلك، طالما أن هذه القيم والمبادئ، باتت جزءا من النسيج الفكري والسياسي والثقافي للجماعة، وعنصر إجماع وتوحيد لتياراتها ومدارسها المختلفة، أقله على المستوى اللفظي حتى الآن، طالما أنها لم تخضع بعد للتجربة والاختبار.
عرضت الوثيقة لجملة من المفاهيم، بعضها جديد على خطاب الحركة وبعضها قديم، عُرض بقراءة جديدة... فمهوم "العدل" مثلا، لم يعد يعرض بوصفه قيمة عليا دينية وأخلاقية وإنسانية فحسب، بل ارتبط بالمساواة في الحقوق والواجبات للجميع من دون تمييز على أساس العرق أو الجنس أو الانتماء الديني والثقافي والفكري أو السياسي.
والحرية في الوثيقة، عنت حرية الرأي والفكر والاعتقاد والتعبير، باعتبارها حقا مكفولا للجميع، تضمنها وتنظمها التشريعات، سواء أكانت حريات فردية أم جماعية، على أن تضمن الدولة الحريات الدينية والفكرية والسياسية والإعلامية والاجتماعية، وتحول دون مصادرتها أو الانتقاص منها، وتمنع فرض الآراء بالقوة على الآخرين...
ولولا عبارة ملتبسة وردت في هذا النص، والتي تشترط الحرية بعدم التعدي على معتقدات الأمة وحقوق المجتمع وهويته وقيمه" لقلنا إننا أمام نص رفيع ينسجم أتم الانسجام مع العهود والمواثيق الإنسانية الأرفع...
ونحن في الوقت الذي لا نشجع فيه، بل ونرفض التعدي على معتقدات الأمة وهوية المجتمع وقيمه، إلا أننا نخشى التفسيرات الفضفاضة التي طالما جرى التستر بها، لقمع الحريات والتعدي عليها وتسويق وتسويغ الشمولية.
وفي بند التعددية والتنوع، أقرت الوثيقة بأن الاختلاف والتنوع العرقي والديني والفكري والثقافي والسياسي والمجتمعي حالة طبيعية، وأن التعددية ملازمة للحرية ولا تنفصل عنها، وهي مصدر إغناء وتفاعل إيجابي، وتعزيز لقوة المجتمع، ولا يجوز أن تتحوّل إلى عامل إضعاف وتفتيت للدولة وتمزيق نسيجها الوطني، ولا إلى سبب للصراع على أسس أيديولوجية أو سياسية أو طائفية أو مذهبية أو عرقية، لتخلص الحركة الإسلامية، للدعوة إلى حفظ التنوع وتعزيز قبول الآخر، ونبذ ثقافة الكراهية، وإشاعة روح التعاون، ورفض منهج الانفراد والاستحواذ والإقصاء للآخر أو اتهامه أو ازدرائه أو تخوينه أو تكفيره، أيا كانت الجهة التي يصدر عنها هذا السلوك.
وفي تطور لافت، وربما غير مسبوق، سجلت الحركة موقفا واضحا من العنف والتطرف والإرهاب، بقولها: "العنف سلوك مرفوض بكل أشكاله، سواء صدر عن أفراد أو مجموعات أو مؤسسات أو حكومات، وسواء استهدف أفرادا أو مؤسسات رسمية أو شعبية" مضيفة أن القانون هو الحكم والفيصل في فض النزاعات.
أما التطرّف فهو آفة مجتمعية لا تستثني مجتمعا من المجتمعات، ولا تقتصر على أتباع دين أو عرق أو فكر أو اجتهاد سياسي، ودوافع التطرّف متعددة؛ فكرية وسياسية واقتصادية ومجتمعية ونفسية.
والإرهاب بوصفه استخداما غير مشروع للعنف، أو التهديد باستخدامه، وبث الرعب بين الناس، وتعريض حياة الآمنين للخطر، من أجل تحقيق مصالح غير مشروعة، مرفوض ومدان، سواء قام به أفراد أو مجموعات أو دول.
وتؤكد الوثيقة أن التطرف والتشدد مرفوضان ومدانان شرعيا وأخلاقيا وإنسانيا، وأنهما مدخل منطقي للعنف والإرهاب، وأن التطرف الفكري عادة ما يسبق الإرهاب السلوكي المدمّر. وترى الحركة أن من واجبها التصدي لهذه الآفات، وتؤكد رفضها تبرير التطرف وتسويغ العنف والإرهاب بأي حجج أو ذرائع.
دولة المواطنة، هي واحد من المفاهيم التأسيسية للوثيقة، إذ توضح أن الوحدة الوطنية والهويّة الجامعة أساسان راسخان لبناء الدولة الحديثة المستقرة والمزدهرة. والانتماء للوطن يتقدم على كل ما سواه من انتماءات وهويات فرعية أولية.
ووفقا للوثيقة فإن دولة المواطنة لا تميّز بين مواطنيها في الحقوق والواجبات على أساس الجنس أو المعتقد أو العرق أو الطائفة أو الموقع الجغرافي أو الموقف السياسي. فالجميع أمام القانون سواء.
كما أنها دولة تقوم على العدل، وتحترم الحريات الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وتكرّس المؤسسية وسيادة القانون واستقلال القضاء والفصل بين السلطات والتداول السلمي للسلطة التنفيذية، وهي دولة تعتمد الانتخاب الحرّ النزيه آلية للاختيار، تجسيدا لمبدأ "الشعب مصدر السلطات".
في أكثر من موقع في الوثيقة جرى ذكر المرأة تارة بوصفها ركن أساس في بناء المجتمعات ونهوضها وتقدمّها في مختلف المجالات، وأخرى بوصفها شريكا أصيلا في التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لها كامل الحقوق الوطنية، مثلما تطالب بكامل الواجبات... مشددة على مبدأ تكامل الأدوار بين الرجل والمرأة ودعم حقها في المشاركة الكاملة، وإسناد الجهود الهادفة إلى تعزيز دورها في التنمية المستدامة.
نعم ولكن؛
نعم، يمكن القول، إن الوثيقة السياسية الجديدة لجماعة الإخوان وحزبها وكتلتها النيابية، جاءت متقدمة عن أدبياتها السابقة، وهي وإن هدفت إلى "توحيد الرؤى والأفهَام" داخل الجماعة وبين تياراتها كما ذكرت، إلا إنها جاءت لتبعث برسائل طمأنة للنظام السياسي ومؤسسة العرش ومختلف التيارات السياسية والفكرية في الأردن، وهي صيغت بلهجة تصالحية، تعظم القواسم والمشتركات، وتدفع عن الجماعة الاتهام بالاستئثار والتفرد، وتجدد رغبتها في "المشاركة" بدلا عن "المغالبة".
لكن الوثيقة مع ذلك، تثير أسئلة وتساؤلات، لجهة توقيتها من جهة وبعض مضامينها من جهة ثانية... في التوقيت، جاءت الوثيقة في ذروة الاستهداف المحلي والإقليمي (والدولي) لجماعة الإخوان المسلمين، إذ تعرضت الجماعة خلال السنوات الست الفائتة، لأوسع حملات المضايقة و"الشيطنة" والاستهداف داخليا، وثمة محور عربي طويل وعريض يناصب الجماعة أشد العداء، ويدرجها في قوائم الإرهاب ويحرض العالم بأسره ضدها، ويموّل ويدعم جميع خصومها من علمانيين وجنرالات وسلفيين وغيرهم، وهذا المحور لا يضم السعودية والإمارات ومصر فحسب، فقد سبقتهم إليه سوريا كذلك، وبعشرات السنين... وامتدت الحملة لتشمل لندن وبرلين وواشنطن وباريس وما تشهده هذه العواصم من مراجعات وتحقيقات جدية للنظر في إمكانية إدراج الجماعة على القوائم السوداء للمنظمات الإرهابية، فيما الجماعة مصنفة إرهابية في روسيا ومطاردة في الصين وعواصم دولية أخرى...
فهل هي مراجعة جدية في عمق الفكر والسياسة، أم هي انحناءة مؤقتة أمام العاصفة؟ هل هو طريق ذو اتجاه واحد لتطور الجماعة، أم أن هذا الطريق ذي اتجاهين، يمكن أن تسلكه الجماعة للأمام قبل أن تستدير وتعود القهقرى للخلف كما حصل في تجارب إسلامية عدة سابقة؟
أما لجهة المفاهيم، فقد بدا واضحا أن ثمة "دعسة ناقصة" في الوثيقة، فبعض المفاهيم والأطروحات التي تضمنتها اتسمت بنزعة "تلفيقية" لكأنها تسعى للمواءمة بين تيارين محافظ وتقليدي، وآخر تجديدي... لقد برز ذلك من خلال تعريف لنفسها وأهدافها، فهي ترى في حالها أن حركة وطنية الانتماء، عربية العمق والانتماء، إسلامية الهوية والمرجعية، وفي مواقع كثيرة تتحدث عن "الأمة وعقيدتها" وبما يعكس فشلا في حسم جدل الهوية وثنائية "الوطني والأممي" في خطاب الحركة.
والوثيقة وضعت للجماعة هدفا هو "نشر الفكرة الإسلامية... وصولا إلى استئناف الحياة الإسلامية" والحقيقة أن الشطر الأخير من هذه الجملة، مستعار من الخطاب التكفيري للجماعات المتطرفة التي أدانتها الوثيقة في مكان آخر... فالحديث عن استئناف الحياة الإسلامية يعني انقطاعها، بما يحيل إلى النظرية القطبية حول "جاهلية الدولة والمجتمع"، وتلكم مقدمة ضرورية للخروج على الدولة والمجتمع على حد سواء، بل وتكفيرهما وإعلان "الجهاد" عليهما... القطع مع المدرسة القطبية ـ التكفيرية، ليس حاسما في هذا البند تحديدا، وتلكم دلالة إضافة على المنهج "التوفيقي ـ التلفيقي" الذي طبع الوثيقة في بعض بنودها.
وأن تطلق الوثيقة على الجماعة وحزبها وكتلها اسم "الحركة الإسلامية في الأردن" ابتداء، ينطوي على دلالتين اثنتين": الأولى؛ ادعاء احتكار تمثيل الإسلام والإسلام السياسي على نحو خاص، لا سيما بوجود وفرة من الأحزاب الإسلامية وذات المرجعية الإسلامية في الأردن... والثانية؛ لكأن الوثيقة تستكثر وصف الحركة الإسلامية بـ"الأردنية"، وتفضل عليه عبارة "في الأردن" في سؤال آخر حول "الوطني والأممي" وأي الهويات (طبقات الهوية) هي الأكثر دقة في التعبير عن هوية الحركة الإسلامية.
اقرأ للكاتب أيضا: الحرب إذ تصبح 'قاب قوسين أو أدنى'
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).