متظاهرون ضد الفساد في مدينة صور جنوب لبنان في العام 2015 (أرشيف)
متظاهرون ضد الفساد في مدينة صور جنوب لبنان في العام 2016 (أرشيف)

منى فياض/

في الحقيقة لا تعرف من أين تبدأ إذا أردت توصيف ما يجري في لبنان. صار وضعه كسيارة من دون كوابح فالتة على طريق شديد الانحدار، تنتظر أي عائق كي تصطدم به وتنفجر.

المشكلة أن هذا هو وضع العالم العربي أيضا. لكن الفارق بيننا وبينهم، أن مسؤولينا لا تشغلهم سوى المناكفات التويترية. أما انهيار لبنان وحاجات اللبنانيين فهي آخر همومهم. المهم "التوافق" على الصفقات والتحاصص، بما فيها "تعيين" المجلس الدستوري. وكل ذلك دون أي احترام للقوانين وللدستور وللمصلحة العامة.

تنهال التوصيفات على ما يجري من كل حدب وصوب: شيزوفرنيا، جنون، كارنفال، عبث، سوريالية... لم يعرف لبنان في تاريخه وضعا مماثلا حتى في عز الحرب الأهلية.

ممارسات البعض أصبحت خارج أي تصنيف سوى بث الكراهية والعنصرية

​​يصف علاء الاسواني في روايته الممنوعة في مصر "جمهورية كأن"، كيف يمارس اللواء "الورع" فساده:

اللواء علواني لا يستغل منصبه ـ والحق يقال ـ قط ليحصل على ميزة لنفسه أو لأسرته، فإذا أخبرته الحاجة تهاني، زوجته، بأن شركتها تسعى للحصول على قطعة أرض في إحدى المحافظات، فإن اللواء يسارع إلى الاتصال بالمحافظ ليقول له إن شركة زمزم، المملوكة لصهره الحاج فلان، وإذا أراد المحافظ أن يخدمه فليعامله كغيره من المقاولين، وأن ينفذ القانون من دون مجاملة. يسكت المحافظ، ويقول: سيادتك تعطينا درسا بالتجرد والنزاهة.

بعد ذلك عندما يتم تخصيص الأرض لشركة زمزم، لا يحس اللواء بأدنى حرج. لقد اتصل بالمسؤول وطلب منه ألا يجامله. ماذا يمكنه أن يفعل أكثر من ذلك؟

وينطبق هذا على قبول ابنه في الحرس الجمهوري وابنته في كلية الطب. كل هذا دون محاباة أو مخالفة للقوانين، ما يبرئ اللواء علوان ذمته أمام ربنا.

كم يبدو محتشما الفساد في مصر! لأنه يحترم مقولة "إذا بليتم بالمعاصي..". أما في لبنان فلم تعد المعاصي بلاء، بل مصدر فخر واعتداد. الفساد هنا كرة يتسلى المسؤولون بتقاذفها في مجلس النواب كما في مباراة حبية. فنحن نعيش في جمهورية "مش فارقة معاي".

شاهدت نكتة سوداء تلقيتها على شكل فيديو: يصعد شاب إلى التاكسي، فيسأله السائق: لوين؟ يجيبه إلى الحدث. يستنفر السائق ويعيد السؤال: لوين؟ عالحدث.

- عفوا بس أنت مسلم أو مسيحي؟

- شو هالسؤال هيدا؟ اطلب منك توصيلي عالحدث!

- إذا مسلم لا أستطيع توصيلك!

هذا تعليقا على فضيحة انكشاف منع تأجير أو بيع العقارات للمسلمين في البلدة. لكن لا مانع من السماح لهم بارتياد البارات لاستهلاك الكحول، الممنوع في ضاحيتهم، للترويح عن النفس!

هذا ويرفض رئيس بلدية الحدث "جورج عون" أن يتراجع عن "قانونه". يؤكد لقناة "أم تي في" أنه "قرار متخذ "منذ 9 سنوات، وتحديدا في أيار/مايو من العام 2010، بعدم تأجير أو تمليك أحد من المُسلمين في المنطقة"، عازيا السبب إلى أنه "من العام 1990 حتى 2010، تملّك إخواننا الشيعة حوالي 60 في المئة من الحدت، ما دفعنا إلى اتخاذ هذا التدبير".

وإذ شدّد عون على أن "التغيير الديموغرافي يضرّ بالجميع"، أضاف: "مفكّرين حالن كمشونا عغلطة، يتركونا نحافظ على مسيحيّتنا". رافضا "الاتهامات بالعنصرية والطائفية ومصرا على أن ما يقوم به هو حق ويحافظ به على العيش المشترك وينطلق من وصية البابا فرنسيس"، وقال: "إن بلدة الحدت هي نموذج للعيش المشترك وصورة مصغرة عن لبنان من خلال مبدأ التعايش، لكننا نرفض التبدل الديموغرافي".

برر البعض الموقف كالتالي: "ما شهدته الحدث اليوم يمكن أن نشهد صخبا مثله في أي مكان ومن الجور أن نلوم أهل الحدث، لكن في حد أدنى، وعلى قاعدة إن "بليتم بالمعاصي فاستتروا" كان من المفترض عدم تعميم الخطأ بقرار بلدي".

مخالفة الدستور والقوانين إذن مقبولة، شرط عدم التبجح بها. وهذا لسان حال وممارسات حزب الله.

ما نشهده هو نوع من مشروع ضمني يهدف إلى تقویض اتفاق الطائف

​​علق المسرحي ميشال جبر بالتالي: "العتب مش ع رئيس بلدية الحدث العتب على تغييب الدولة. صور للخميني والأسد وغيرهما، وأعلام صفر وخضر وإيرانية وآيات قرآنية وفرض نمط عيش معين.. لم أتكلم بعد عن السلاح والصراعات العشائرية والحشيشة.. مبارح (الأمس) كنت بمطعم عالروشة عنده سلسلة بكل المناطق معي ضيف أجنبي طلبنا نبيد وبيرة قال ما منقدم. سألته ليه بانطلياس بتقدموا وهون لا! قال هون ممنوع... مين اللي منع وبأي حق.. روحوا عالجامعة اللبنانية بالحدث.. نسخة عن الضاحية. بتفكر حالك بمكتب أمل أو حزب الله أو بشي حوزة. يا دولة قوية وفصل الدين عنها يا خلونا كل واحد نعيش بكانتون وخلصونا بقى. وحاج تنادو بالعفاف ببلد العهر".

لكن المشكلة أن نظام الكانتونات لا يمنع أو يحد حرية التنقل ولا الملكية في أي مكان ضمن نظام فيدرالي.

ربما كان الأجدى "بالمدافعين" عن العيش المشترك وعن العلمانية واقتراح جعل لبنان مركزا لحوار الأديان، كما يزعم التيار الوطني الحر، أن يتنبهوا لواقعهم ويضعوا شروطهم، قبل توقيع اتفاق مار مخايل العتيد مع حزب الله، ويطالبوا باستعادة المسيحيين (ومنهم رئيس الجمهورية) أملاكهم التي نزعت منهم في الضاحية بطرق عدة، ليست جميعها شرعية بالتأكيد، في عز الحرب الأهلية، بدلا من هذه الممارسات التمييزية والعنصرية المستقوية بالحزب نفسه؛ وتحت شعار العيش المشترك وحفظ التنوع!

والمشكلة هنا تتعدى رئيس البلدية الذي يصدر قوانينه الخاصة. المشكلة في مكان آخر؛ فهو يخالف القانون والدستور بتغطية من كل من: رئيس الجمهورية ورئيس السلطة التشريعية، ورئيسهما الأعلى أي مرشد الجمهورية!

لكن تقلب المواقف ومخالفة الدستور أصبحت لنا عادة في عهد التيار الوطني الحر، والصحف تغص بالأمثلة المفندة في جميع المخالفات الصريحة للقوانين ولاتفاق الطائف. يبدو أن ما نشهده هو نوع من مشروع ضمني يهدف إلى تقویض اتفاق الطائف وتفريغه بالتدرج وبالممارسة، وإضعاف لبنان وإغراقه في الفوضى. وذلك كله تحت شعارات القوة: دولة قوية؛ لبنان قوي؛جمهورية قوية؛ رئيس قوي؛ جمهور مستقوي؛ طائفة قوية؛ مقاومة سوبر قوية.. ماذا يفصلنا بعد عن الفاشية المتبجحة؟!

لم يعرف لبنان في تاريخه وضعا مماثلا حتى في عز الحرب الأهلية

​​إن ممارسات البعض أصبحت خارج أي تصنيف سوى بث الكراهية والعنصرية. ولقد أتحفنا وزير خارجيتنا الذي لا يتوقف لا عن الحركة ولا عن التصريحات المتناقضة التي يتراجع عن بعضها ويحاول إصلاحها بتفسير أسوأ من التصريح نفسه، أن الجينات وحدها تفسر تشابهنا وتمايزنا كلبنانيين. وهذا مبرر رفض النزوح واللجوء! يريد أيضا دفن السنیة السیاسیة وإحیاء المارونیة السیاسیة. فهل يكون حينها مسغربا أن يعتدي البعض على السوريين؟ أو أن تتصدع العلاقة بين الطوائف؟ وأن تصاب التسوية بشقوق ـ هذا إذا افترضنا أن الإذعان للفيتوات والخضوع المطلق يكون تسوية.

علق ذات يوم الصديق عباس بيضون على انزعاجي من نقد مجحف لكتابي فخ الجسد قائلا: لا تهتمي، من الجيد أن يكتب عن كتابك، سواء أكان ذما أم مديحا"! هذه النصيحة يطبقها وزير خارجيتنا بامتياز.

وفي الوقت الذي يركز فيه سياسيو لبنان على تركيز أقفيتهم على الكراسي، مفرغين الدولة من آخر مقوماتها. يهتم النظام الإيراني بالحفاظ على رأسه في وجه الأمواج الترامبية العاتية.

ربما المطلوب من كل هذا الحفاظ على هيكل الدولة، أو غلافها، دون المحتوى. فهذا أسهل للهضم.

اقرأ للكاتبة أيضا: الصين ـ هونغ كونغ: آليات السيطرة

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.