يحاول عرابو التغيير في أي مجتمع ـ أيا كانت هوية هذا التغير المقترح، وأيا كان مصدره الأساس؛ من حيث الذاتية أو الموضوعية ـ استخدام ما هو موجود فعلا على أرض الواقع؛ حتى لو كان هذا الموجود يُشّكل عنصرا مضادا لطبيعة لحراك الذي يقترحونه أو يجترحونه.
ففي المجتمع المتدين يعمد الفاعل الاجتماعي/ السياسي إلى الاستثمار في الدين، واللعب على أوتار العاطفة الدينية بذكاء أو بغباء. فيما يعمد هذا الفاعل ذاته إلى الاشتغال على معادلات العصبية القبلية؛ عندما يكون المجتمع قبائليا متعصبا. وأحيانا تكون الوطنية هي مادة الدعاية؛ خاصة عندما يكون تشكّلها في الوعي مكتملا ـ تاريخا ورموزا ـ إلى درجة تتجاوز دوائر الانتماءات الصغرى التي قد تقف حائلا دون أن تبلغ مسيرة الحشد التغييري مداها/ هدفها المأمول.
التيار الإسلاموي ليس بِدْعا في هذا المجال. بل إن هذا التيار الإسلاموي في هويته تيار عملي، ذو هدف تغييري واضح، هدف لم ينكره أصحابه، ولم يتجاهله الباحثون. لقد لاحظ الباحث/ هشام غالب ـ بحق ـ أن الصحوة الإسلامية تجعل السياسة على رأس الأولويات؛ عكس السلفيات التقليدية (الظاهرة السلفية، تحرير: بشير نافع، ص43). ولا غرابة في ذلك، فأي نشاط تغييري هو في النهاية يشتغل على توظيف مُجْمل القوى الاجتماعية لتحقيق مستوى ما من السلطة التي تمنحه شرعية التغيير، كما تمنحه القدرة على التغيير؛ حتى يتمكن من صنع نموذجه الأمثل الذي يتصوره طوق نجاة في هذه الحياة، أو في الحياة الأخرى، أو فيهما كليهما، أو ربما ـ وهذا ليس نادرا ـ ليحقق من وراء كل ذلك هدفه الذاتي الخاص؛ من خلال الاشتغال على الهدف الموضوعي العام.
لقد أشار توماس هيغهامر في دراسته عن "الظاهرة الجهادية" إلى الدور الحاسم لما هو "قبل جهادي/ ما وراء جهادي"، أي إلى الجانب الذاتي الذي يمازج أشد صور التضحية تنكرا للذات (كما تبدو في ظاهرها على الأقل). هو يؤكد أن "التمتع بالمنزلة الاجتماعية التي كان يتمتع بها المجاهد" كانت هدفا أساسيا يقف وراء دفع كثيرين للالتحاق بمسيرة الجهاد/ بقافلة المجاهدين (الجهاد في السعودية، ص104).
وهكذا، فإذا كانت الأهداف الذاتية/ الدنيوية حاضرة في التضحيات الكبرى التي تنتفي معها الحياة ذاتها؛ مما يجعل الذاتية/ الدنيوية أمرا مستبعدا؛ فما بالك بما دون ذلك من التضحيات الصغرى التي تعانق أفق الحياة في حضورها الأقوى والأسعد والأجمل؟!
ليس شرطا أن نسمع ما يقوله الخطاب صراحة، فربما كان ما يسكت عنه هو عين مراده في الحقيقة. تسويق "المدنس" بـ"المقدس" طريقة شائعة منذ القِدَم. استغلال وسائل القوة المتاحة أمر طبيعي في الفضاءات التي تحتدم فيها صراعات القوى. ما تَعدّه أنت في هذا السياق كذبا وخداعا ونفاقا واستغلالا، يعده ممارسوه ذكاء، وحنكة، وفَهْما أعمق للحياة، وحسن استغلال لما هو متاح، بل واستنقاذا لحياة أولئك الذين تراهم ضحايا استغلال في هذا السياق (استنقاذا لنوعي الحياة: الحياة الدنيا/ الحياة الآخرة).
كثير من المتحدثين بلسان الله صنعوا ـ بقصد أو بغير قصد/ واعين أو غير واعين ـ أمجادا دنيوية باذخة: أمجادا أممية لأتباعهم، وربما أمجادا ذاتية لأنفسهم أو لخاصّتهم من الأقربين أو المقربين. ربما كان هذا التواشج بين الذاتي والموضوعي هو سرّ النجاح، خاصة وأن الفصل ـ على مستوى تفحّص النيّات ـ قد يكون مستحيلا أو شبه مستحيل.
يقول بول فاين: "الإخلاص الديني والمصالح الأكثر دنيوية غالبا ما يكون زواجهما ناجحا" (علماء الإسلام، محمد نبيل مُلين، ص29). وهذا يعني أن التداخل الواعي أو غير الواعي بين الذاتي والموضوعي لا يعني بالضرورة نفاقا أو استغلالا، بقدر ما يعني ـ أحيانا ـ وَعْيا أعمق بطبيعة الإنسان الذي هو ليس روحا خالصا، كما هو ليس ابن الماء والطين في كل الأحوال.
أكثر من ذلك، فالإنسان في تصوري ليس هو ـ دائما ـ الإنسان الذي يحب الوضوح، ويعشق صراحة الصادقين، ويحترم عدالة المُقْسِطين. الإنسان في النهاية كائن معقد، ليس عقلانيا في كل الأحوال، بل وربما ليس عقلانيا في معظم الأحوال، فكثيرا ما تجده يعشق الكاذبين، ويهيم حبا بالمخادعين، أي بمن يمنحونه الوهم الجميل؛ حتى لو استيقن أنهم يحتقرونه عندما يمارسون بحقه أتفه صور الخداع. وفي هذا تأكيد على أن "التغذية بالوهم" إذ تستدعي الاشتغال على الجانب العاطفي، الديني أو غير الديني، لا تعني بالضرورة مكرا وخداعا في تمظهرهما السلبي؛ بقدر ما تعني تلبية الاحتياجات الإنسانية من أقرب الطرق، أو ـ بتعبير أدق ـ من أكثر الطرق ملائمة لطبيعة الإنسان الذي تهون عليه الصعاب عندما يقتحمها بهوى العاشقين وعزائم المؤمنين.
لقد نَمَتِ الحركات الإسلاموية أول ما نمت في بيئات تُعاني وَيْلات التخلف والجهل والفقر، في الوقت الذي تدلف فيه هذه المجتمعات إلى فضاء التواصل المتعولم الذي يكشف لها بصورة أعمق عن أزمتها، ويجعلها أكثر وعيا ببؤسها. ومن هنا، فـ"هذه الحركات تجمع أولئك الذين أغفلهم التحديث الفاشل، وتعمد إلى تعبئتهم حول أسطورة العودة إلى الأصالة الإسلامية التي لم توجد قط. وبهذا المعنى، فإن الإسلاموية عامل تكامل وإدماج للفئات الاجتماعية التي أنتجتها واستبدلتها في آن معا عملية التحديث المتسارعة للمجتمعات المسلمة" (تجربة الإسلام السياسي، أوليفيه روا، ص186).
قبل نمو هذه الحركات الإسلاموية كان الاتكاء على الأيديولوجية القومية هو السائد في مسار الاحتجاج ضد الآخر الغربي/ المستعمر. وقد استطاعت هذه الأيديولوجية القومية أن تقوم بمهمة الحشد الجماهيري في هذا المضمار؛ حتى إن كثيرا من منجزات التحرر القومي تُنسب إليها، بصرف النظر عن كثير من الملابسات في هذا المجال.
لكن، هذا النجاح النسبي الذي حققته هذه الأيديولوجية القومية في مجال التعبئة الجماهيرية ضد الاستعمار، لم يكن لها أن تحققه ضد الحكومات الفاشلة التي أعقبت الاستعمار، مع أنها أسوأ وأقسى؛ إما لأن هذه الحكومات نفسها تبنّت الأيديولوجية القومية، بل واحتكرت الحديث باسمها؛ فصار استخدامها في الاحتجاج عبثا، وإما لأن مضامين العدالة والحق الإنساني، فضلا عن التميّز الذاتي، لم تكن تنبض بها قلوب القوميين. بينما كان الخطاب الإسلاموي يُقدّم الحلم الطوباوي على طبق من قداسة تمتد لأكثر من أربعة عشر قرنا، حلم واسع تعضده تجارب تاريخية حاضرة في الأذهان كعصور ذهبية، هي عصور الأسلاف العظام الزاهية بكل ما هو عادل وجميل، بل ـ وربما هو الأكثر تأثيرا ـ بكل صور العزة الإمبراطورية الباذخة التي تداعب أحلام المسحوقين في زمن لم يقدم لهم فيه الحراك القومي إلا الهزائم تلو الهزائم؛ فضلا عن الفقر المدقع، والإحباط المتواصل، والقمع المرعب، حتى تذكّر الناس زمن الاستعمار بكثير من الحنين المكتوم!
لم تجد هذه الجماهير ما ينتظمها في مسيرتها الاحتجاجية ضد واقعها المتردي إلا الأيديولوجية الإسلاموية التي قدّمت لها أجمل الوعود للتحرر من هذا الواقع. لكن، كانت هذه الأيديولوجية ستفقد ألقها لو أنها قدّمت نفسها كخطاب احتجاج صريح ضد واقع مادي بائس، ستفقد عنصر القداسة الذي يتعالى بها على هذا الواقع، وبالتالي، تصبح مجرد تجربة مشابهة للتجربة القومية الفاشلة. أي لا يمكن أن يبدأ الاحتجاج العظيم، الصادر عن غضب عظيم تطاول عليه الأمد، من خلال الإشارة إلى وقائع البؤس المادي الذي تتبرّع كثير من الأيديولوجيات المعاصرة لاجتراح الحلول المناسبة له، ما يعني أنه ـ في مثل هذا التوصيف ـ واقع قابل للحل، أو مرض قابل للشفاء؛ مع تكرار أساليب العلاج، ومع الصبر الطويل.
الإسلاموية ترفع الاحتجاج إلى مستوى أعلى، بل تترفع به؛ ليتجاوز هوامش هذه الحياة، بعد أن يستبطنها في حلوله الكُليّة/ الكبرى. الصلاة العلنية، والحجاب الرمزي، والمصارف التي ترفع شعار هويتها الإسلامية...إلخ، كل ذلك يرفع راية الاحتجاج على الواقع بعد أن يعلن تعاليه على هذا الواقع، كل ذلك يعلن حالة الرفض الحاسم لكل الحلول المتشابهة التي باء معظمها بالفشل، ولا أمل في الباقي منها لتشابهها. كل ذلك يعكس حالة الخوف من الحلول التي تتضمن احتمالات الفشل؛ هروبا إلى الحل الإلهي المعصوم.
من هنا، تبدو الملاحظة الميدانية التي أشار إليها الباحث الفرنسي القدير/ أوليفيه روا كاشفة عن المضمون الاحتجاجي في الممارسات الشعائرية، بل عن كون هذا المضمون الاحتجاجي هو الأصل. يقول أوليفيه روا قبل ثلاثة عقود تقريبا: "فالفارق عظيم مثلا بين إيران الإسلاموية التي لا نرى أحدا فيها اليوم يصلي في الشارع، وبين الأحياء المؤسلمة الجديدة في جمهوريات علمانية (تونس وتركيا)، حيث تقفل جماهير المصلي بعض الشوارع أمام حركة السير. فانتصار الإسلاموية السياسي هو نهاية التقوى الحقيقية. المساجد تزدحم بالمصلين حينما تصبح أمكنة تعبئة وتحريض في مواجهة دولة يُنظر إليها كدولة قمع وعصبيات؛ ولكنها (أي المساجد إياها) تفرغ حين تستولي الإسلاموية على السلطة"(تجربة الإسلام السياسي، أوليفيه روا، ص190).
اليوم، وبعد مرورنا بما يسمى "الربيع العربي" الذي وصلت فيه كثير من التيارات المتأسلمة إلى السلطة، لفترة ما، بشكل كامل أو بشكل جزئي، تبدو هذه الملاحظة صادقة. ففي اللحظة التي يكون فيها التيار الإسلاموي في السلطة يختفي التظاهر الديني في الفضاءات العامة، لا لكون الحماس الدين تراجع (بل على العكس، تصاعد وهجه)، وإنما لأن الاحتجاج فقد معناه بوصول رموز هذه الإسلاموية الاحتجاجية إلى عرش السلطة الذي كان هو هدف تلك الشعائر الاحتجاجية في يوم من الأيام.
اقرأ للكاتب أيضا: الحريات الدينية في خطاب الإسلامويين
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).