نازحون سوريون يجمعون ممتلكاتهم لبيعها في بلدة إبيان في ريف حلب لتأمين مستلزمات الحياة اليومية
نازحون سوريون يجمعون ممتلكاتهم لبيعها في بلدة إبيان في ريف حلب لتأمين مستلزمات الحياة اليومية

رستم محمود/

لم تتوقف طوال الأسبوع الماضي الأخبار السيئة حول أحوال اللاجئين السوريين في تركيا، شكلت تلك المقاطع المُصورة المُريعة لآلاف المواطنين الأتراك في مدينة إسطنبول وهم يهاجمون المحال التجارية لسوريين في المدينة، لما قيل إنه ردة فعل على جريمة اغتصاب شاب سوري لطفلة تركية، شكلت الوسمة الأكثر تعبيرا للرعب الذي يعيشه ملايين اللاجئين السوريين هناك.

كان المنظر أشبه ما يكون بلقطات نادرة من الأفلام التي تصور الحروب الأهلية الدينية في القرون الوسطى، تقوم فيه جماعة شديدة الحماسة والطاقة والثقة بالنفس، مع الكثير من النزوع نحو الطُهرانية، بالهجوم على أبناء جماعة أخرى، تراها مُلبسة بكل أرواح الشرور والشيطنة، وإن كانت مليئة بالاستسلام التام والرعب الداخلي. منظر لم يعد من السهولة رؤيته في كل أشكال الحروب الحديثة، حيث لا يتقابل فيه المهاجمون والمستسلمون بهذا المستوى من القُرب وبتلك الفداحة من خلل علاقة القوة فيما بينهما.

♦♦♦

مع الأحداث والأخبار الأخيرة حول اللاجئين السوريين في تركيا، تكون دائرة ما قد صارت كاملة، فجميع دول المنطقة ومجتمعاتها وقواها السياسية، بنسب وأدوات مختلفة، تكون قد أظهرت نفورها من اللاجئين السوريين. وهذه الدائرة، ومع كل سوئها، إنما تكشف عدة حقائق لا تبدو واضحة، بالذات بالنسبة للقواعد الاجتماعية السورية الأوسع، صاحبة القضية وضحيتها.

السوريون هم ضحايا غياب "قيم الدولة" في كثير من النماذج العالمية

​​أول الأشياء في هذا الإطار، تقول إن مسألة اللاجئين السوريين أقل ما تكون هوياتية، طائفية أو عِرقية وقومية، كما يُشاع منذ سنوات على نطاق واسع. بل هي جزء حيوية من التوازنات والعلاقات السياسية المركبة في المنطقة، وفقط كذلك.

فالسوريون رُحب بهم بداية في تركيا ليس لأنهم مواطنون سُنة، مثل غالبية الشعب التركي، بل فقط لأن مُراكمة مئات الآلاف من النازحين السوريين، كان جزءا من استراتيجية حزب العدالة والتنمية تجاه المسألة السورية، ليكونوا ورقته الرابحة في مواجهة النظام السوري أو القوى السورية المناهضة لتركيا، وطبعا في مستوى ما للضغط على الدول الأوروبية.

كذلك فإن الحملات المناهضة لهم إنما نبعت من نفس الحاجات والأدوات. فحينما صار حزب العدالة والتنمية بحاجة أصوات القواعد القومية التركية في مدينة إسطنبول، صار مرشحه للانتخابات البلدية الأخيرة، ورئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم، صار يقول بحق اللاجئين السوريين أشياء شبيهة بما يقوله وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل بحقهم منذ سنوات. نفس الأمر ينطبق على مرشح حزب الشعب الجمهوري التركي، الذي اقتضى اعتماده على خطاب مدني وتقدمي في استراتيجيته الانتخابية، لأن يرى ويتحدث عن مسألة اللاجئين السوريين بكثير من الوئام والأنسنة، وهو المتأتي من حزب سياسي كان موقفه طوال السنوات الماضية شديد الحساسية من اللاجئين السوريين.

على ذلك المنوال السياسي، يمكن قياس وفهم كل أحوال اللاجئين السوريين في دول المنطقة. إذ ترى حزبا سياسيا لبنانيا ذا خلفية وقواعد اجتماعية مسيحية مثل حزب القوات اللبنانية، أكثر رحابة ووئام في علاقته مع أوضاع اللاجئين السوريين، المسلمين السنة بأغلبيتهم المطلقة، من أحزاب وشخصيات وقوى سياسية سنية لبنانية موالية للنظام السوري وذات مصالح متداخلة مع حزب الله اللبناني. نفس الأمر يمكن قياسه على أحوال اللاجئين السوريين وعلاقتهم مع النظام والقوى الاجتماعية الأردنية مقارنة بما يعيشه مئات الآلاف من السوريين في إقليم كردستان العراقي.

♦♦♦

التسليم بذلك، أي بأن المواقف والنزعات الحساسة والعنصرية المناهضة للاجئين السوريين في مختلف دول المنطقة ومجتمعاتها وقواه السياسية متأتية من خلفيات سياسية لا هوياتية، يجب أن يؤدي ميكانيكيا للإيمان بأن المسألة إذا لا تتعلق بالسوريين لكونهم كذلك، كما تسعى نزعة وطنية سورية بائسة أن تروج لها، بل يتعلق بالعلاقة الموضوعية بين اللاجئين الضعفاء، الذين يجب أن يتحملوا قسوة وغلاظة المجتمعات المستضيفة وقواها السياسية.

فهذه الأخيرة، أي القوى السياسية في مختلف دول المنطقة، إنما ترى على الدوام، وفي مختلف الدول والنماذج، ترى في اللاجئين ملفا شديد الطواعية لترتيب موقعها وعلاقتها مع القواعد الاجتماعية، بالسلب أو الإيجاب في الموقف من اللاجئين، وحسب الحاجة. لذلك فإن اللاجئين، هم محل استعمال دائم بيد القوى السياسية، في مختلف الدول والنماذج والحالات.

السوريون كانوا على الدوام ضحايا غياب دولتهم بالذات

​​بهذا المعنى، فإن السوريين يجب أن يتخلوا طواعية عن خطاب البؤس الذي يقول "يكرهوننا لأننا سوريون"، هذا المنحى الذي يحمل الكثير من النرجسية والأوهام حول الذات. فجميع هؤلاء الذين "يكرهون السوريين"، إنما "يكرهون" كثير من الأشياء والمجتمعات، وفي الغالب الأعم يكرهون تشكيلات مجتمعية ضمن فضاءاتهم، أضعاف ما يكرهون السوريين، لكن الدولة بقوتها والتزاماتها لا تسمح لمثل هذه "الكراهية المحلية" أن تنفجر، مثلما تسمح به في مناهضة اللاجئين السوريين.

طفل سوري يلهو مع يمامة في مخيم للاجئين عند الحدود السورية التركية

​​لأجل ذلك، على السوريين أن يكونوا أقل ثقة بأنفسهم وخطابهم حول أنفسهم وما يعتبرونه "علاقة تاريخية مجيدة" جمعتهم في الكثير من النماذج والحالات مع اللاجئين الذين قدموا إلى سوريا طوال عقود مضت. على السوريون أن يفكروا بأشياء من مثل: كيف كان سيكون أحوال اللاجئين العراقيين في سوريا بعد العام 2003 لو لم يكن النظام السوري يتلهف لجذبهم والاستفادة السياسية والاقتصادية منهم، وكيف كانت ستكون أحوال النازحين اللبنانيين أثناء حرب العام 2006 فيما لو لم يكن النظام السوري نفسه يقبل بذلك.

قد تطول الأمثلة على ذلك، لكنها ضرورية لأن يعي السوريون بأن أحوالهم ليست استثنائية، وأنهم كمجتمع وثقافة لم يكونوا يوما أكثر طهرانية من غيرهم. على السوريين مثلا الاستماع إلى كثير من مرويات الأرمن والأكراد والأتراك والعراقيين واللبنانيين الأردنيين، الذين كانوا يوما لاجئين في سوريا، وليس أن يحرصوا فقط على الاستماع إلى ما يطرب ذواتهم وأنفسهم ويراكم حسهم بمظلوميتهم ونزعتهم للشعور بخيانة كل ما يحيط بهم.

♦♦♦

يدفع السوريون أثمان بالغة جراء ما يعيشونه من أحوال بائسة، لكنها ليست فظاعة خاصة بهم، لا لكونهم سوريين، ولا لأنهم الوحيدون، ففي عالم اليوم ثمة قرابة سبعين مليون لاجئ، يشكل السوريون قرابة عشرة بالمئة منهم فحسب. لكنهم في المحصلة يجب أن يعوا الأسباب الحقيقة لما يلاقونه من فظاعة، التي يمكن اختصارها بعبارة واحدة "غياب الدولة".

فالسوريون كانوا على الدوام ضحايا غياب دولتهم بالذات. كانت أحوال السوريين كذلك في لبنان والخليج ومختلف أصقاع العالم كأحوالهم الراهنة، كانت فظاعات المغتربات أفضل بكثر مما يمكن أن يلاقوه في بلادهم، التي كانت دولة على شكل جهاز أمني، دولة عليهم لا لهم.

ترى القوى السياسية في مختلف دول المنطقة في اللاجئين ملفا شديد الطواعية لترتيب موقعها وعلاقتها مع القواعد الاجتماعية

​​على نفس المنوال، فإن السوريين اليوم هم ضحايا غياب الدولة في الكيانات التي تحيط بهم، هذا الغياب للدولة، بسلوكياتها ومواثيقها وطبائعها العادية، سمحت للقوى السياسية في هذه الدول أن تعتبر اللاجئين السوريين ملعبا مفتوحا، يمكن لها أن تستخدمه وتعبث فيها كما تشاء، دون أية ضوابط أخلاقية وقانونية نابعة "نبالة" وواجبتها تجاه اللاجئين في بلادها.

هذا التفصيل الصغير والعميق، هو الفرق الوحيد الذي يمكن أن يلاحظه اللاجئ السوري بين حزب ألماني يميني شعبوي وآخر لبناني يوازيه بتلك النزعات. فالحزب الألماني، أيا كانت نزعاته وتطلعاته المتطرفة، لا يستطيع أن يتجاوز عتبة الدولة الألمانية في خياراتها وتعاقدها مع اللاجئين.

أخيرا، فإن السوريين هم ضحايا غياب "قيم الدولة" في كثير من النماذج العالمية. إذ ترى في دولة ما شديدة الجهازية والمؤسساتية، لكن خالية تماما من أية نزعة للحماية الفعلية للاجئين وحقوقهم الآدمية المشتركة.

اقرأ للكاتب أيضا: يافع كُردي من عفرين يفكر بأحواله وبالثورة السورية

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.