تظاهرة لمثليي الجنس وسط العاصمة التركية إسطنبول
تظاهرة لمثليي الجنس وسط العاصمة التركية إسطنبول

مالك العثامنة/

يقول الكاتب التركي الساخر عزيز نيسين في إحدى تجلياته العبقرية: "القهوة والديمقراطية، هما الشيئان اللذان لا ينبتان في بلدنا لكنهما يأتيان من الخارج".

وكقارئ نهم وقديم للراحل نيسين، تذكرت تلك العبارة له وأنا أتابع المزاج التركي العام في مدينة مثل إسطنبول وهي تنتخب بكل شفافية وبشكل مكرر خلال ثلاثة شهور السياسي المعارض أكرم إمام أوغلو، عمدة للمدينة.

ما قاله نيسين، ليس انتقاصا من الديمقراطية التركية، بالعكس، فالقهوة التركية صارت ماركة مسجلة بجودتها ولذتها وطقوسها الخاصة، وكذلك الديمقراطية التركية: فهي لا تزال جيدة، وماركة مسجلة بفرادتها ولها طقوسها الخاصة.

خاض إمام أوغلو انتخابات بلدية اسطنبول بعقلية السياسي التركي لا بعقلية العمدة

​​باعتقادي، أن السيد رجب طيب أردوغان، هو وحده الذي نسي طعم القهوة التركية وطقوسها، كما غفل قليلا عن طقوس الديمقراطية التركية التي يمكن لها أن تدهشه هو نفسه بنتائجها.

لكن، وبعيدا عن ثنائية القهوة والديمقراطية التي نحتها نيسين، فإن في انتخابات إسطنبول حجم من القراءات يليق بالمدينة الأكثر غرابة في تاريخها البيزنطي الطويل، وبكل الأحوال، ورغم كل شيء، تبقى إسطنبول "على عراقتها البيزنطية" نموذجا جليا لكل ما يدور في وجدان الأناضول، فتلك إسطنبول وأسرارها.

كثير من الصفحات بكل اللغات تجدها على الإنترنت، تتحدث عن رجب طيب أردوغان، وكلها تجمع أن الرجل كان أفضل رئيس بلدية بكل المقاييس الخدمية في تاريخ اسطنبول "الحديث"، ونجاحه كعمدة للمدينة العريقة، وقدرته المدهشة في تنظيفها وتطوير الخدمات فيها إلى مراحل غير مسبوقة، جعلت أسهم الرجل القادم من رحم التيارات الإسلامية الحاضنة له ترتفع في عيون الأتراك، الذين اعتقدوا (وهو اعتقاد منطقي) أن الذي يستطيع تنظيف حارات إسطنبول ورفع سوية الخدمات البلدية فيها لا بد أنه قادر على أن يقود تركيا كلها بذات السياسة.

المشكلة في تلك المقاربة المنطقية التي حملت أردوغان إلى أعلى مناصب القيادة في تركيا، أنها تحمل حيلتها في داخلها، فقيادة مجمع إدارات خدمية في مدينة كبيرة مثل إسطنبول ليس عملا سياسيا محترفا وهو ما يحتاجه قيادة دولة معقدة التركيب مثل تركيا.

أردوغان حتى وهو في أنقرة، فقد حمل عقلية إدارة أحياء مدينة اسطنبول معه

​​أردوغان، العمدة الناجح جدا وبامتياز، قاد تركيا ولا يزال بعقلية العمدة نفسه، وهو مثلا ما دفعه بالانتخابات الأخيرة التي خسرها هو وحزبه إلى التحالف مع حزب قومي متشدد معاد للأكراد، وتلك الحركة تفتقد المهارة والحصافة السياسية، وهي حيلة قد تنجح في مستوى بلدية أو تحالفات حي في إسطنبول.

أردوغان حتى وهو في أنقرة، فقد حمل عقلية إدارة أحياء مدينة اسطنبول معه.

♦♦♦

أكرم إمام أوغلو، الأربعيني القادم طفلا من خارج إسطنبول لينشأ في المدينة العريقة أتاتوركيا مشبعا بالفهم الأوسع لشبه جزيرة الأناضول، والمدعوم بالوعي المعرفي الحديث للعلاقات الدولية في العالم، كان سياسيا منذ البداية، وبمهارة ذلك السياسي استطاع أن يخلق الكاريزما حول نفسه بزمن قياسي، وبأدوات سياسية بحت. خاض الانتخابات حاملا حزبه معه، ليكون عمدة المدينة باختيار ديمقراطي بحت ومكرر، فالمرة الأولى التي ربح فيها، شكك أردوغان وحزبه بنتائج الانتخابات في آذار/مارس الماضي، وهو تشكيك يعكس عقلية "رئيس البلدية" القادر على إدارة الأحياء لا الدولة، وفي الانتخابات المعادة، ينجح أكرم إمام بنتيجة مضاعفة تعكس قدرته السياسية على كسب المزاج "الإسطنبولي".. الغريب والمعقد.

كانت أدوات أكرم إمام أوغلو سياسية تلامس واقع الأتراك. خاض انتخابات بلدية اسطنبول بعقلية السياسي التركي لا بعقلية العمدة، فكان قريبا في حملته الانتخابية من كل الأطياف الشعبية، واقتحم أحياء وحارات يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية، وامتلأت صور حملته بالمحجبات وحين سؤاله عن ذلك رد بمهارة سياسي تركي لا مرشح بلدية (كل من يعيش في مجتمعنا سيظهر في صورنا). تلك عبارة هامة يلقيها سياسي شاب منحدر من عائلة محافظة وتقليدية جدا، كان والده رفيقا لزعيم تركي راحل هو تورغوت أوزال، وألقاها كما ألقى عبارات انفتاحية كثيرة أمام مجتمع محتار في الفترة الأخيرة بين خطاب "الحزب الحاكم" الإقصائي والهوية التعددية لهذا المجتمع، لقد حسمها أكرم إمام أوغلو وفتح طريقا جديدا بدأ الأتراك في إسطنبول ـ وخارج إسطنبول ـ يجدون فيه أنفسهم من جديد.

أدوات أكرم إمام أوغلو سياسية تلامس واقع الأتراك

​​قراءته للأتاتوركية، كانت قراءة أكثر عمقا وحكمة من قراءة القوميين المتشددين لأتاتورك، فابن الأربعين القادم من إرث سياسي بدأ من أقصى اليمين وانتهى به في حضن الأفكار اليسارية، لطالما انجذب لتلك القراءة الديمقراطية الاجتماعية لتجربة أتاتورك، والتي سلطت الضوء على مفهوم الدولة الحديثة عنده لتصبح ركيزة يستند لها مفهوم جديد لدولة رفاهة (اقتصاديا) تقدمية (اجتماعيا) أميل لليسار، وأكثر قابلية للتحاور مع الأكراد، وأكثر قبولا لتعدد الخلفيات الاجتماعية العلمانية والمحافظة على السواء، وأكثر رفضا لتدخل الجيش في السياسة.

وعلى عكس أردوغان..

أكرم إمام أوغلو حتى وهو في اسطنبول، فقد حمل معه إلى مكتب عمدتها عقلية أنقرة العاصمة.

♦♦♦

مرة أخرى، هناك عبقرية في التقاطة عزيز نيسين التي تصدرت المقال. فالقهوة التي يستوردها الأتراك، انتهت بماركة خاصة لها طقوسها ومزاجيتها وروعتها.. تماما مثل الديمقراطية التي استوردها الأتراك أيضا، وانتهت مثل القهوة.. "عصملي وسط".

اقرأ للكاتب أيضا: لمصر.. لا لأحد

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.