لاجئان من الروهينغا يعبران نهرا مع طفلهما باتجاه بنغلادش عام 2017
لاجئان من الروهينغا يعبران نهرا مع طفلهما باتجاه بنغلادش عام 2017

حسين عبدالحسين/

مؤلمة كانت صورة الرجل السلفادوري الغارق وابنته، ذات السنتين، على ضفة نهر ريوغراندي، الذي يفصل المكسيك عن الولايات المتحدة. هي كصورة الطفل السوري الذي كان ممدا ميتا على شاطئ تركي بعد غرق أحد مراكب الموت التي تقل اللاجئين عبر المتوسط. قبلهما، كان فيديو لأب سوري يحمل ولده الصغير بيد، وكيس وضع فيه على الأرجح أثمن مقتنياته المتبقية له في هذا العالم، ويركض مع مجموعة من اللاجئين السوريين، عبر الحدود المجرية، هربا من حرس الحدود. كانت صحفية واقفة تلتقط الصور، ومدّت رجلها، فتعثر الأب ووقع مع ابنه.

الأولاد يثقون بأهلهم ثقة عمياء. الأولاد لا يدركون فداحة المشكلة ولا الحلول الممكنة، بل يعتقدون أن أهلهم عظماء، يعرفون كل شيء، يتدبرون كل شيء، ويصلون برّ الأمان. هكذا كنا في حرب لبنان الأهلية: نعرف أن القصف العشوائي مخيف، وأن المرور في طرق محفوفة بمخاطر وجود قنّاص، وأن الحاجز التالي قد يكون من دين مختلف، فيقتلنا بلا تردد. كنا ننظر في وجه أهلنا، صفراء، خائفة، نراهم يركضون، نركض، نراهم يختبئون في الغرفة التي يعتقدونها الأكثر أمنا في البيت، نختبئ.

الملايين ماتوا وهم يركضون، وهم يعبرون، وهم يسبحون في بحار الدنيا وأنهارها

​​ثم كبرنا، وصرنا أهلا، وصار أولادنا يثقون بنا في الشدائد كما كنا نثق نحن بأهلنا. لكننا صرنا نعرف اليوم، أنه قبل عقود كثيرة، لم يكن أهلنا يعلمون أننا وإياهم سنخرج من الأزمات أحياء. كانوا يتظاهرون بالقوة ليطمئنونا، وكنا نصدقهم.

في كل مرة أعيد مشاهدة ذاك اللاجئ السوري الذي يحمل ابنه راكضا ويتعثر برجل الصحفية الخسيسة، أحاول ضبط دموعي. لا أعرف ما سرّ هذا الفيديو. الأب يحمل ابنه وكل ما يملك ويركض. إلى أين؟ لا يعرف؟ في أي اتجاه؟ ما الفرق؟ الولد يثق بأن ابيه سيصل إلى الأمان. لكن الأب تعثر مع ولده وما تبقى له في ذاك الكيس. وقف الأب وما زال يحمل ابنه. هذه المرة، راح الأب يبكي كالأولاد! تلك كانت قمة الألم في المشهد.

أحرق بشار الأسد سوريا، ووقف ذاك الرجل على الحدود بين دولتين لا يعرف الفارق بينهما. في يديه ولده وما تيسر. وقع. ثم وقف، وكأنه لم يقف. الدنيا ضاقت به، وبكل السوريين الهاربين من جحيمهم، فراح يبكي، والأرجح أن كلهم بكوا، منهم في سرّهم، ومنهم في العلن. انتهت الإنسانية. بكى الأب، وعرف ابنه ما استغرقني عقود لأعرفه: أن الآباء يبكون، وأنهم لا يقدرون على كل شيء. وأنهم يحاولون، وأنه عندما تنتهي الإنسانية، يقعون، ويبكون، وقد يموتون على ضفة النهر وهم يحاولون إنقاذ أولادهم.

لحسن حظ ذاك الصبي، تحولت كبوته مع أبيه إلى قصة عالمية، ففتحت له أوروبا ذراعيها، وقالت له تمنى، وقال الصبي أنه يحب رونالدو، ففتح له نادي ريال مدريد الإسباني أبوابه، ودبر له لعبة كرة قدم بمشاركة رونالدو، وأبيه، وباقي النجوم.

لكن الحظ لم يبتسم لملايين الآباء والأمهات والأولاد السوريين، والسلفادوريين، والعراقيين، والصوماليين. الملايين ماتوا وهم يركضون، وهم يعبرون، وهم يسبحون في بحار الدنيا وأنهارها. كيف تتعامل الإنسانية مع هذه المآسي؟ كيف توقف الهرب والبكاء والموت؟

لم يتعامل غالبية البشر مع مأساة الغريق السلفادوري وابنته بعقلانية، بل تحركت فيهم الغريزة القبلية، ورفعوا أصابع الاتهام السياسي. اتهموا إدارة ترامب بالمسؤولية، وقالوا إنها إدارة عنصرية لا إنسانية. رد مناصرو ترامب أن السياسات نفسها مارسها سلفه باراك أوباما، الذي قام بترحيل من اللاجئين غير الشرعيين ضعف عدد من رحلّهم ترامب.

في العالم 260 مليون مهاجر، من الشرعيين وغير الشرعيين، ممن يعيشون في أراض غير أوطانهم، حسب تقديرات الأمم المتحدة، والرقم في ازدياد مضطرد. الهاربون إلى الولايات المتحدة غالبهم من ثلاث دول من أميركا الوسطى هي السلفادور وهندوراس وغواتيمالا، وهي دول تعاني من انهيار حكوماتها، وتحولها إلى دول فاشلة، على طراز فنزويلا: معدلات جريمة عالية، وتضخم، وفقر، وفساد حكومي، وانفلات على كل الصعد. مجموع سكان هذه الدول الثلاثة يبلغ 25 مليون نسمة، ولو هاجر ثلثهم إلى أميركا، قد يؤدون إلى اهتزاز في الداخل الأميركي الذي يحاول التعامل مع قرابة 40 مليون أميركي يعيشون تحت خط الفقر، من أصل 325 مليونا في البلاد.

ومثل أميركا التي تحاول ضبط سيل المتسللين إليها، تعطي أوروبا تركيا مئات ملايين الدولارات سنويا حتى تقوم الأخيرة بالحد من هجرة اللاجئين السوريين، فبنت تركيا سورا حدوديا مع سوريا يبلغ طوله 800 كيلومترا، وقام حرس الحدود فيها بقتل 400 من السوريين ممن حاولوا التسلل إليها.

كل مرة أعيد مشاهدة ذاك اللاجئ السوري الذي يحمل ابنه راكضا ويتعثر برجل الصحفية الخسيسة، أحاول ضبط دموعي

​​الدول المستقرة يمكنها استيعاب بضعة ملايين المهاجرين سنويا، بمن فيهم اللاجئين. لكن المعدلات الحالية تشير إلى ارتفاعات أكبر بكثير، ما من شأنه تهديد الدول المضيفة، والتسبب بقيام أحزمة بؤس وفقر حول المدن، وهو ما يرفع من معدلات الجريمة.

أما الحلول البديلة، فتكمن بقيام الحكومات المستقرة بالتدخل في الدول الفاشلة، مثل سوريا وفنزويلا، حتى لو عسكريا، والإطاحة بالحكومات الفاسدة، ورعاية قيام حكومات أرشد، والمساعدة في تنظيم انتخابات وحماية الحريات، وكلها عناصر تسمح بنمو الاقتصاد، وتاليا انخفاض الفقر والجريمة، وبقاء السكان في دولهم.

لكن الخطاب الخشبي المعادي للإمبريالية، بما فيه داخل أميركا، لا يسمح بذلك، بل يصرّ على حق تقرير المصير، وترك الناس تحكم نفسها. يرحل الاحتلال الأجنبي، أو الاستعمار، أو الانتداب، فيلحقه مواطنو الدول التي تركها، ويشتكون من إقفال مستعمريهم السابقين أبوابهم، وكأن لسان حالهم يقول: ألا ليت الاستعمار يعود يوما، فأخبره بما فعل الحكم الوطني، والكرامة الوطنية، والعنفوان.

اقرأ للكاتب أيضا: مظلومية مرسي وظلامية 'الإخوان'

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.