مؤلمة كانت صورة الرجل السلفادوري الغارق وابنته، ذات السنتين، على ضفة نهر ريوغراندي، الذي يفصل المكسيك عن الولايات المتحدة. هي كصورة الطفل السوري الذي كان ممدا ميتا على شاطئ تركي بعد غرق أحد مراكب الموت التي تقل اللاجئين عبر المتوسط. قبلهما، كان فيديو لأب سوري يحمل ولده الصغير بيد، وكيس وضع فيه على الأرجح أثمن مقتنياته المتبقية له في هذا العالم، ويركض مع مجموعة من اللاجئين السوريين، عبر الحدود المجرية، هربا من حرس الحدود. كانت صحفية واقفة تلتقط الصور، ومدّت رجلها، فتعثر الأب ووقع مع ابنه.
الأولاد يثقون بأهلهم ثقة عمياء. الأولاد لا يدركون فداحة المشكلة ولا الحلول الممكنة، بل يعتقدون أن أهلهم عظماء، يعرفون كل شيء، يتدبرون كل شيء، ويصلون برّ الأمان. هكذا كنا في حرب لبنان الأهلية: نعرف أن القصف العشوائي مخيف، وأن المرور في طرق محفوفة بمخاطر وجود قنّاص، وأن الحاجز التالي قد يكون من دين مختلف، فيقتلنا بلا تردد. كنا ننظر في وجه أهلنا، صفراء، خائفة، نراهم يركضون، نركض، نراهم يختبئون في الغرفة التي يعتقدونها الأكثر أمنا في البيت، نختبئ.
ثم كبرنا، وصرنا أهلا، وصار أولادنا يثقون بنا في الشدائد كما كنا نثق نحن بأهلنا. لكننا صرنا نعرف اليوم، أنه قبل عقود كثيرة، لم يكن أهلنا يعلمون أننا وإياهم سنخرج من الأزمات أحياء. كانوا يتظاهرون بالقوة ليطمئنونا، وكنا نصدقهم.
في كل مرة أعيد مشاهدة ذاك اللاجئ السوري الذي يحمل ابنه راكضا ويتعثر برجل الصحفية الخسيسة، أحاول ضبط دموعي. لا أعرف ما سرّ هذا الفيديو. الأب يحمل ابنه وكل ما يملك ويركض. إلى أين؟ لا يعرف؟ في أي اتجاه؟ ما الفرق؟ الولد يثق بأن ابيه سيصل إلى الأمان. لكن الأب تعثر مع ولده وما تبقى له في ذاك الكيس. وقف الأب وما زال يحمل ابنه. هذه المرة، راح الأب يبكي كالأولاد! تلك كانت قمة الألم في المشهد.
أحرق بشار الأسد سوريا، ووقف ذاك الرجل على الحدود بين دولتين لا يعرف الفارق بينهما. في يديه ولده وما تيسر. وقع. ثم وقف، وكأنه لم يقف. الدنيا ضاقت به، وبكل السوريين الهاربين من جحيمهم، فراح يبكي، والأرجح أن كلهم بكوا، منهم في سرّهم، ومنهم في العلن. انتهت الإنسانية. بكى الأب، وعرف ابنه ما استغرقني عقود لأعرفه: أن الآباء يبكون، وأنهم لا يقدرون على كل شيء. وأنهم يحاولون، وأنه عندما تنتهي الإنسانية، يقعون، ويبكون، وقد يموتون على ضفة النهر وهم يحاولون إنقاذ أولادهم.
لحسن حظ ذاك الصبي، تحولت كبوته مع أبيه إلى قصة عالمية، ففتحت له أوروبا ذراعيها، وقالت له تمنى، وقال الصبي أنه يحب رونالدو، ففتح له نادي ريال مدريد الإسباني أبوابه، ودبر له لعبة كرة قدم بمشاركة رونالدو، وأبيه، وباقي النجوم.
لكن الحظ لم يبتسم لملايين الآباء والأمهات والأولاد السوريين، والسلفادوريين، والعراقيين، والصوماليين. الملايين ماتوا وهم يركضون، وهم يعبرون، وهم يسبحون في بحار الدنيا وأنهارها. كيف تتعامل الإنسانية مع هذه المآسي؟ كيف توقف الهرب والبكاء والموت؟
لم يتعامل غالبية البشر مع مأساة الغريق السلفادوري وابنته بعقلانية، بل تحركت فيهم الغريزة القبلية، ورفعوا أصابع الاتهام السياسي. اتهموا إدارة ترامب بالمسؤولية، وقالوا إنها إدارة عنصرية لا إنسانية. رد مناصرو ترامب أن السياسات نفسها مارسها سلفه باراك أوباما، الذي قام بترحيل من اللاجئين غير الشرعيين ضعف عدد من رحلّهم ترامب.
في العالم 260 مليون مهاجر، من الشرعيين وغير الشرعيين، ممن يعيشون في أراض غير أوطانهم، حسب تقديرات الأمم المتحدة، والرقم في ازدياد مضطرد. الهاربون إلى الولايات المتحدة غالبهم من ثلاث دول من أميركا الوسطى هي السلفادور وهندوراس وغواتيمالا، وهي دول تعاني من انهيار حكوماتها، وتحولها إلى دول فاشلة، على طراز فنزويلا: معدلات جريمة عالية، وتضخم، وفقر، وفساد حكومي، وانفلات على كل الصعد. مجموع سكان هذه الدول الثلاثة يبلغ 25 مليون نسمة، ولو هاجر ثلثهم إلى أميركا، قد يؤدون إلى اهتزاز في الداخل الأميركي الذي يحاول التعامل مع قرابة 40 مليون أميركي يعيشون تحت خط الفقر، من أصل 325 مليونا في البلاد.
ومثل أميركا التي تحاول ضبط سيل المتسللين إليها، تعطي أوروبا تركيا مئات ملايين الدولارات سنويا حتى تقوم الأخيرة بالحد من هجرة اللاجئين السوريين، فبنت تركيا سورا حدوديا مع سوريا يبلغ طوله 800 كيلومترا، وقام حرس الحدود فيها بقتل 400 من السوريين ممن حاولوا التسلل إليها.
الدول المستقرة يمكنها استيعاب بضعة ملايين المهاجرين سنويا، بمن فيهم اللاجئين. لكن المعدلات الحالية تشير إلى ارتفاعات أكبر بكثير، ما من شأنه تهديد الدول المضيفة، والتسبب بقيام أحزمة بؤس وفقر حول المدن، وهو ما يرفع من معدلات الجريمة.
أما الحلول البديلة، فتكمن بقيام الحكومات المستقرة بالتدخل في الدول الفاشلة، مثل سوريا وفنزويلا، حتى لو عسكريا، والإطاحة بالحكومات الفاسدة، ورعاية قيام حكومات أرشد، والمساعدة في تنظيم انتخابات وحماية الحريات، وكلها عناصر تسمح بنمو الاقتصاد، وتاليا انخفاض الفقر والجريمة، وبقاء السكان في دولهم.
لكن الخطاب الخشبي المعادي للإمبريالية، بما فيه داخل أميركا، لا يسمح بذلك، بل يصرّ على حق تقرير المصير، وترك الناس تحكم نفسها. يرحل الاحتلال الأجنبي، أو الاستعمار، أو الانتداب، فيلحقه مواطنو الدول التي تركها، ويشتكون من إقفال مستعمريهم السابقين أبوابهم، وكأن لسان حالهم يقول: ألا ليت الاستعمار يعود يوما، فأخبره بما فعل الحكم الوطني، والكرامة الوطنية، والعنفوان.
اقرأ للكاتب أيضا: مظلومية مرسي وظلامية 'الإخوان'
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).