يد روبوتية في أحد مؤتمرات أمازون
يد روبوتية في أحد مؤتمرات أمازون

قبل عامين، كنت في حلقة نقاش في إيطاليا يقودها أحد كبار المحللين الاستراتيجيين في العالم، والذي قال إن أحد خمسة عوامل ستغير العالم والعلاقات الدولية في المستقبل هي "الأتمتة"، ثم أضاف بأنه قد يكون العامل الأهم على الإطلاق.

الأتمتة كلمة تلخص جوهر كثير من تقنيات المستقبل، فالذكاء الاصطناعي والروبوتات والمركبات ذاتية القيادة وغيرها تهدف جميعا لاستبدال الإنسان بالآلة الأذكى والأسرع والأقوى والأقل تكلفة والأسهل تشغيلا. هذا يعني خلق عدد هائل من العاطلين عن العمل، وذلك إلى أن تتأقلم الإنسانية على هذا الوضع الجديد حيث المهام الروتينية ستكون حصرا على الآلات بدلا من الإنسان.

لماذا سيؤثر هذا على العلاقات الدولية؟ السبب باختصار لأن كل قائد سياسي سيكون التحدي الأكبر أمامه هي تلك البطالة، والتي ستعني اتجاهات سياسية متشددة ضد قدوم المهاجرين من الخارج، وبالتالي مشكلات أكبر للدول النامية المصدرة للأيدي البشرية، وتطبيق لاقتصاد مغلق بدلا من الاقتصاد المفتوح. 

المستقبل مشرق جدا لأولئك الذي سيملكون التقنية والذي سيتعلمونها أو يستثمرون فيها

​​أي بكلمات أخرى، كما كنا في بدايات هذا القرن نجري نحو الاستفادة من ثمرات العولمة والاقتصاديات المفتوحة، ستجري البشرية في الاتجاه المعاكس لاحقا، وذلك خوفا من البطالة، وهو أمر بدأنا نلمسه فعلا في الخطاب السياسي للرئيس دونالد ترامب وعدد من الدول الأوروبية، وكان هو الحجة الأكثر رواجا بين الجماهير التي ذهبت للتصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والشعار المرفوع بقوة بين الكتالونيين الذين صوتوا لانفصال إقليمهم عن إسبانيا.

لاحظ هنا أن تقنيات المستقبل يفترض أن ترفع الإنتاجية العالمية عموما وتخلق الكثير من الوظائف الجديدة، ولكنها وظائف نوعية (تقنية أو إبداعية أو تحليلية)، وعلى المدى الطويل سيستفيد العالم من هذه التقنيات في صناعة حياة أفضل للناس، ولكن المشكلة كلها في المرحلة الانتقالية التي يتوقع أن تستمر لثلاثين سنة تقريبا، حيث وتيرة التغيير التقني أسرع بكثير من قدرة الناس على التأقلم والتعلم، وسيكون على الحكومات البحث عن حلول لهذه المشكلة العويصة.

في كتابه "ثروة الإنسانية" (Wealth of Humans)، يرسم ريان أفينت صورة قاتمة لما ستواجهه الديمقراطيات الغربية أمام هذا التحدي، ستكون هناك كل أشكال الغضب الشعبي، وقد يؤدي هذا لثورات سياسية، وستتصاعد الاتجاهات الفكرية الاشتراكية، وسيؤدي هذا لتغيرات عميقة في العلاقة بين الحكومات والجمهور، وخاصة أن كثيرين، ومنهم أفينت، يتوقعون فشل الحكومات في التعامل مع هذه المشكلة، وسيطرة الخطاب العاطفي والوعود المؤقتة على الحملات الانتخابية السياسية. أيضا، سيفتح هذا الباب لممارسات أقل ديمقراطية لتحقيق الأمن وتطبيق الحلول الجذرية أمام هذه التحديات. 

الطريف أن التكنولوجيا الجديدة ستمنح الحكومات قوة هائلة للتعامل مع الشعوب، فاعتماد الإنسان على التقنية في حياته سيسهل على الحكومات مراقبته والتحكم به والضغط عليه ومعاقبته بشكل مذهل.

يقول تقرير لجامعة أكسفورد إن 47 في المئة من الناس سيفقدون وظائفهم الحالية لصالح الآلة، خلال العشرين سنة القادمة، وهؤلاء يشملون المحاسبين والأطباء وموظفي البنوك والصحفيين وبعض قطاعات الهندسة والصيادلة عموما فضلا عن وظائف أخرى أكثر روتينية. هذا قريب من دراسة ماكينزي التي توقعت أن يكون الرقم هو 45 في المئة. لو افترضت معكم أن 40 في المئة من هؤلاء سيستطيعون التأقلم من خلال تعليم أنفسهم للحصول على وظائف أخرى مناسبة للعصر الجديد، فهذا يعني أن نسبة البطالة ستصل إلى 30 في المئة، وهذا رقم ضخم جدا، وكفيل بقلب المعادلات السياسية رأسا على عقب، وهو بلا شك سيساهم في انهيار الطبقة الوسطى في المجتمع، وخلق طبقتين أساسيتين: الأثرياء والفقراء!

التكنولوجيا ستكون الصديق رقم واحد والعدو رقم واحد في الآن نفسه

​​هناك قضية أخرى ستؤثر بشكل حاد على العلاقات السياسية بين الدول. بينما تؤثر العوامل الجيوسياسية (حجم الدولة وموقعها ومواردها الطبيعية) على مكانتها بين دول العالم وتمدها بالكثير من القوة، سيكون ممكنا في المستقبل (ربما خلال عقد من الزمن لا أكثر) لدولة صغيرة جدا أن تتبوأ مكانة هامة مع سيطرتها على مكون تقني مهم تحتاجه الدول الأخرى. التحكم في حركة المعلومات سيجعل الدول قادرة على التأثير السياسي في شعوب دول أخرى كبيرة. الاقتصاد ستميل كفته للدولة التي تملك المهارة البشرية (الكيف) ضد من يملك الحجم البشري (الكم).

ربما المثال الأكثر إثارة في هذا المجال هو اسرائيل، والتي تمضي بسرعة هائلة في تطوير قدراتها التقنية، وهي في بعض المجالات من أهم خمس دول في العالم، وهذا يعني أنه رغم صغر مساحتها وضعفها من حيث إمكاناتها الجيوسياسية، فإنها ستبنى لنفسها مكانة غير مسبوقة في علاقاتها الدولية، وخاصة مع الدول العربية، وهذا قد يغير كل معادلات السياسة في الشرق الأوسط في المستقبل.

المستقبل مشرق جدا لأولئك الذي سيملكون التقنية والذي سيتعلمونها أو يستثمرون فيها، وهو مظلم أمام من ستجور عليهم تغيرات العالم، وبين هؤلاء ستعمل الحكومات، تحاول السيطرة على التقنية، وفي نفس الوقت تعالج مشاكل البطالة، أي أن التكنولوجيا ستكون الصديق رقم واحد والعدو رقم واحد في الآن نفسه.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.