طفل يلهو بدراجته المزينة بمناسبة عيد الاستقلال الأميركي
طفل يلهو بدراجته المزينة بمناسبة عيد الاستقلال الأميركي

حسن منيمنة/

يمكن القول، وإن على قدر من التجاوز، بأن الثورة الأميركية، والتي أعلنت استقلال المستعمرات الثلاث عشرة وقيام الولايات المتحدة الأميركية عام 1776، كانت للثورة الفرنسية التي تلتها بعد عقد ونيّف بمثابة تونس لمصر عام 2011. فأتون الأفكار الإصلاحية والأنوارية والثورية كان في فرنسا، حاضرة العالم في زمانها، كما كان الغليان الفكري في مصر على مدى الأعوام التي سبقت "الربيع:. غير أن تونس كانت السبّاقة، وتونس كانت الأنجح، عسى أن يستمر هذا النجاح لتبقى تونس على بهائها.

الحاجة إلى هذه المقارنة هي للتذكير بأن الولايات المتحدة، يوم قامت، لم تكن الدولة ذات التعداد السكاني الكبير، ولا القوة ذات النفوذ المترامي، وإن هي انتفضت على إحدى أعظم قوى زمانها، بريطانيا ذات الممالك التي لا تغيب عنها الشمس.

الإطار المبدئي الأول والذي رسمه إعلان الاستقلال لا يزال ساري المفعول

​​أنوار فرنسا لم تكن قد تمكنت من شق الظلمات عندما اعتنقتها مجموعة من الناشطين الطامحين عبر المحيط، ليصبحوا في عرف التاريخ "الآباء المؤسسين" للولايات المتحدة، هذه التجربة الفريدة التي أرادت لنفسها، بوحي من روح "ماغنا كارتا" الحريات الإنكليزية في القرن الثالث عشر، ثم بناء على قناعات "القانون الطبيعي" وأفكار عصر الأنوار، وكذلك على التأطير الفكري الذي رسمه البناؤون الأحرار (أي الماسونيون، هؤلاء الذين يعشقهم أصحاب الرؤى المؤامراتية)، وجلّ الآباء المؤسسين منهم (ولا عجب أن تكون شعاراتهم على العملة الورقية إلى اليوم لينهمك المؤامراتيون بسعي دؤوب إلى فك طلاسمها المفترضة)، لتضع موضع التنفيذ طرحا انقلابيا بما للكلمة من معنى.

لا خروج، في وثيقة "إعلان الاستقلال" والتي وقّعها ممثلون عن المستعمرات البريطانية في القارة الأميركية، عن القراءة السائدة للواقع في عموم المجتمعات البشرية حينئذ. ثمة خالق حَكَم، وثمة ولي حاكم، وثمة إنسان محكوم. ولكن في حين كانت المعادلة السائدة أن من يصادق على صحة نسبة حكم ولي الأمر لحكمة الإله هو النص الديني والأوصياء عليه من الأحبار والكهنة والعلماء، ما يجعل العامة رعية مفعول بها، فإن "إعلان الاستقلال" جاء ليؤكد جهارا بأن حكمة الإله جلية للعامة بشكل حقوق ظاهرة وثابتة، أولها الحياة والحرية وطلب السعادة، وأن العامة بالتالي هم الأوصياء على حسن أداء الحاكم، وبقاؤه في منصبه وخلعه من المناط بجمهورهم، إذ يصبح فاعلا لا مفعولا به.

لم تكن الولايات المتحدة أولى تجارب الحكم التي تتخطى الملكية. في التاريخ القديم بعض الجمهوريات، وفي حالات هامشية، كما أيسلندا النائية، صيغ لا تعتمد على التوارث. غير أن إعلان الاستقلال الأميركي هذا هو نقطة تحول مفصلية في التاريخ على أكثر من مستوى، لأنه صريح وواضح في تأصيله للحقوق، ولأنه وإن كان في مستعمرات عبر المحيط أثار حراكا أشعل القارة الأم وجعل من النظام الجمهوري مطلبا عاما، ولأن الولايات المتحدة التزمته على ما يقترب من ربع الألفية من الزمن دون انقطاع.

أن يكون المواطن هو السيد وهو الفيصل في الحكم رؤية ابتدأت نظريا خارج الولايات المتحدة ولكنها وضعت موضع التنفيذ هنا.

طفل يتفاعل مع الألعاب النارية بمناسبة الرابع من يوليو عيد الاستقلال الأميركي

​​بالتأكيد، لم تكن الولايات المتحدة يومئذ، ولا هي اليوم على التطبيق الكامل لهذه الرؤية، بل الخطايا والهفوات والآفات والعلل عديدة ولا يزال ما فات منها يلقي بظلاله الثقيلة على حاضر البلاد. ترحيل السكان الأصليين وخيانة العهود معهم والعمل على استئصالهم وإبادتهم فصول قاتمة من المرحلة التأسيسية للتاريخ الأميركي. استجلاب الأفارقة رقيقا وعبيدا وتسخيرهم للعمل الشاق، وتفتيت شملهم والاتجار بهم، ثم عزلهم وازدرائهم وإيذائهم بعد اعتاقهم، وما يستمر إزاءهم إلى اليوم من قلة اعتبار وتمييز، من أقبح ما كان وما يزال في رصيد هذا المجتمع. ولن يكون الإنصاف إلا بإعادة الحقوق إلى أصحابها، أي بأن يحصل الأحفاد بالتمام والكمال على مطلق ما أنتجه أجدادهم من قيمة مضافة لهذه البلاد.

القائمة لا تنتهي هنا. هذا المجتمع قد أساء في وسطه للنساء والأقليات الجنسية وللمهاجرين وللمختلفين عرقيا ودينيا ولغويا. وكل هذه اعوجاجات بحاجة مستمرة إلى المزيد من التصويب. وفي الخارج خاضت الولايات المتحدة على مدى تاريخها حروبا استغلالية لمصالح اقتصادية، وأخرى، بغضّ النظر عن صوابيتها، أفرطت فيها في استعمال القوة الضاربة، من هيروشيما وناغازاكي ودريسدن إلى ڤيتنام والعراق وأفغانستان.

ولا ضير أن يُحاسب ماضي الولايات المتحدة وحاضرها لهذه الخطايا والأخطاء، كل في سياقها، ودون انتقائية. فالحصيلة، بعد كافة المساءلات، هي أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال قوة خير في هذا العالم.

والإطار المبدئي الأول والذي رسمه إعلان الاستقلال لا يزال ساري المفعول في تأكيده على عصمة النفس وحرية الضمير والتعبير كمنطلق لسيادة المواطن ولخضوع الحاكم للمساءلة المستمرة. فحيث كان القصور والتقصير، فإن مسار هذا المجتمع هو التقدم المتواصل، وإن اعترى ذلك بين الحين والآخر قدر من التراجع.

مسار الولايات المتحدة في السعي إلى تجسيد القيم التي نصّ عليها إعلان الاستقلال لم يكتمل

​​ليست الولايات المتحدة من ابتدع مفهوم القيم العالمية القائمة على الحرية والكرامة والمساواة، بل هذه القيم نتاج إنساني عام اتخذ شكله التأطيري الواضح في أوروبا الأنوار وما سبقها وما تلاها، ثم تهذّب وتشذّب بمساهمات، وإن غير متكافئة بالكم والنوع، من كل أصقاع الكوكب. ولكن الولايات المتحدة كانت عاملا رئيسيا في تمكين هذا المفهوم على مدى أكثر من قرن.

من المؤسف ألا يتيقن الرئيس الأميركي الحالي، في لقاء العشرين في مدينة أوساكا اليابانية، لسوء السكوت عن الاعتداء اللفظي الطاعن من جانب الرئيس الروسي، بما هو عليه من سلطوية قيصرية، إذ اعتبر أن هذه القيم قد ولّى زمانها. بل هي القيم التي أرستها وثيقة يبلغ سنها الـ 243 هذا الأسبوع، في حين أن أعمار نظم الطغيان، بما في ذلك القيصرية الروسية الحالية ذات القميص الجمهوري، في أحسن الأحوال لا تقاس إلا بالعقود.

مسار الولايات المتحدة في السعي إلى تجسيد القيم التي نصّ عليها إعلان الاستقلال لم يكتمل. غير أنه بوسع هذه البلاد، إذ تتطلع إلى المزيد من التزكية، أن تعتزّ للتو بإنجازها، دون اعتبار لأي طعن وتجاهل.

اقرأ للكاتب أيضا: 'الرخاء مقابل السلام' مسعى قاصر، لكنه صادق

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.