تنقذ ما بقي من مبنى دمرته غارات الطيران السوري أو الروسي في إدلب
تنقذ ما بقي من مبنى دمرته غارات الطيران السوري أو الروسي في إدلب

حازم الأمين/

أين النظام السوري من خطاب الكراهية الذي باشره حلفاؤه اللبنانيون حيال اللاجئين السوريين في لبنان؟ وما سر هذا الصمت حيال قضية من المفترض أنه معني بها أكثر من غيره؟ النظام الذي من المفترض أن العالم بدأ يعيد تأهيله لحكم سوريا، أو على الأقل النظام الذي يطمح إلى ذلك! فبالإضافة إلى حلفائه المنتشرين على مساحة الوجدان اللبناني، لهذا النظام حدود هائلة مع لبنان، وله أيضا سفارة، وسفير يشارك في كل الأنشطة السياسية والاجتماعية والعاطفية، وليس آخرها القبلات الحارة التي تبادلها هذا السفير مع كبير مؤسسي قصيدة النثر العربية أدونيس في الجامعة الأنطونية في بيروت. هذا السفير، وهذا الشاعر، يمارسان صمتا مذهلا حيال خطاب كراهية يتعرض له نحو مليون لاجئ من بلدهما.

وللمناسبة فإن غالبية ضحايا هذا الخطاب ليسوا خصوم النظام في سوريا، وإن كانوا ليسوا من مناصريه. هم أناس هربوا من الحرب، وخسروا منازلهم في أرياف دمشق وحمص ودير الزور. والأشد قسوة في هذه المعادلة هو أن عودتهم المستحيلة إلى بلادهم المدمرة يعوقها أيضا النظام نفسه الذي قالت صحيفة مقربة منه مؤخرا نقلا عنه، أن "لا عودة وشيكة للاجئين من لبنان".

يكشف هذا القبول بالإذلال قبولا بإذلال أكبر يمارس على النظام في سوريا

​​السؤال لا يطمح إلى سجال النظام، ذاك أن سجال آلة قتل قد يستدرجها إلى مزيد من الاشتغال. السؤال قد يرسم تصورا لنوع العلاقة المتخيلة بين النظام العائد وبين رعاياه. النظام غير معني بأكثر من علاقة موت وقتل مع رعاياه. النظام لا يعتبر أن رعاياه، لا بل ضحاياه، هم جزء من كرامته. فالقاتل، حتى القاتل، لطالما راودته حمية ما حيال قتيله إذا ما تعرض الأخير لاستهداف من خارج وجدان القاتل. ذلك السؤال المذهل الذي افتتح فيه الشاعر اللبناني الراحل محمد العبدالله تراجيديا الحرب اللبنانية، حين اختار كل لبناني قتيلا له، وجاء من قتل "قتيل" الشاعر بينما كان الأخير يراقبه من النافذة، فصرخ العبدالله: "من قتل قتيلي"؟ ألا يشعر النظام أن ثمة من ينافسه على قتلاه؟

لنتخيل أن مليون لاجئ سوري عادوا إلى سوريا! فالسؤال هنا هو عن طبيعة علاقة هؤلاء العائدين مع النظام، وهذا يشمل احتمالات موتهم على يده، إلا أنه يشمل أيضا الطبيعة الإذلالية لهذا النظام ومن بين صورها صمته على خطاب الكراهية الذي مارسه حلفاؤه في لبنان حيال "مواطنيه" وقتلاه.

والنظام السوري بقبوله "إذلال" سوريين في لبنان يقبل أيضا بنصيب من هذا الإذلال، ذاك أن للعنصرية مضامين "بيولوجية وجينية" عبر عنها جبران باسيل حين قال إن رفض اللاجئين هو جزء من طبيعة اشتغال "الجينات اللبنانية"، وهذا الاشتغال لن يميز بين عدو وحليف، وحقل عمله الرئيسي في الزمن الباسيلي هو السوريون من دون هوياتهم السياسية.

يكشف هذا القبول بالإذلال قبولا بإذلال أكبر يمارس على النظام في سوريا، هو ذاك الذي تمارسه الدول الراعية لهذا النظام، مثل روسيا وإيران، وليس مشهد بشار الأسد ماشيا خلف فلاديمير بوتين في قاعدة حميميم مظهره الوحيد، فهدايا موسكو لتل أبيب وكان آخرها رفاة جندي إسرائيلي تم نقله من دمشق إلى تل أبيب كانت امتدادا لمزاج الإذلال هذا.

هذا السفير، وهذا الشاعر، يمارسان صمتا مذهلا حيال خطاب كراهية يتعرض له نحو مليون لاجئ من بلدهما

​​ولكن أن يصل الأمر بهذا النظام إلى حد يقبل فيه أن ينظم جبران باسيل إلى جوقة المُذِلين، فهذا يطرح تساؤلا حول قدرة النظام على أن يحكم سوريا، حتى لو قتل أكثر من نصف أهلها. فهنا، نحن لا نتحدث عن خطاب كراهية عابر يمكن التغاضي عنه. هو حملة ممنهجة ومتصاعدة وضاغطة. آلاف اللافتات رُفِعت وحملت عبارات شديدة القبح والضيق وقلة الكرم، بما يشبه إعلانا عن زمن جديد تحل فيه الكراهية في موقع متقدم من سلم قيم الجماعة. ثم أن ما ترافق مع هذه الحملة من أخبارٍ عن تسليم الأمن اللبناني لمطلوبين للنظام، وإقدام الأخير على إعدامهم بحسب ما نُقل عن أهلهم، يجعل من تقدم الوظيفة الأمنية لدى النظام على ما لحقه من إذلال لتأمينها، محل تساؤل فعلا! فهل يكفي أن يبذل النظام ماء وجهه مع حلفاء صغار لقاء تسلمه خمسة فارين من الجندية؟

يعيدنا هذا إلى السؤال الأول، وهو أن حكم النظام السوريين بالحديد والنار، وعلى نحو أشد قسوة وفتكا مما كان يمارسه قبل انتفاضتهم عليه، لن يستقيم، وأن "حليفا" من حجم جبران باسيل يمكن أن يسرق منه "قتلاه" وأن يذل له كرامته.

اقرأ للكاتب أيضا: لبنان يبتز أوروبا: الفساد أو اللاجئين

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.