ردة فعل أحد المتهمين بقضية "مجزرة بورسعيد" بعد سماعه عبارة "تحال أوراق المتهم إلى فضيلة المفتي"
ردة فعل أحد المتهمين بقضية "مجزرة بورسعيد" بعد سماعه عبارة "تحال أوراق المتهم إلى فضيلة المفتي"

د. عماد بوظو/

كل مشاهدي السينما المصرية يحفظون عن ظهر قلب العبارة التي يقولها القاضي بصوت جهوري في كثير من الأفلام: "تحال أوراق المتهم إلى فضيلة المفتي"، والتي تعني الحكم على المتهم بالإعدام وما يعقبها من حالات بكاء وإغماء.

لكن بعيدا عن السينما، في الثالث والعشرين من شهر فبراير/شباط الماضي كان وقع هذه الجملة غريبا، عندما قضت محكمة مصرية بإحالة أوراق راهبين قبطيين إلى مفتي مصر لأخذ موافقته على إعدامهما بعد أن أدينا بقتل أسقف دير أبو مقار. سبب الغرابة أنه إذا كانت مصر دولة مدنية وقوانينها وضعيّة وقضاؤها مستقل، فلماذا تحال أوراق المحكمة إلى المفتي لأخذ رأي الشرع الإسلامي في العقوبة، أما إذا كان للمراجع الدينية المصرية رأي في الأحكام القضائية، فمن الأولى أن يؤخذ رأي بابا الكنيسة القبطية في جريمة طرفاها قبطيان وحدثت داخل دير، إلا إذا كانت جمهورية مصر العربية دولة إسلامية، وملايين الأقباط من أبنائها الذين يعيشون على أرضهم التاريخية، مجرد رعايا عند هذه الدولة، لأن هذا ما تعنيه إحالة أوراق الراهبين القبطيين للمفتي لأخذ رأي الدين الإسلامي في عقوبتهما.

ورد ذكر هذا الإجراء في قانون تحقيق الجنايات الأهلي المصري لعام 1883 في المواد 207 و208 و209: "في مواد الجنايات التي تستوجب الحكم بالقتل حسب الشريعة الإسلامية الغراء يجب على المحكمة أن تستفتي قبل الحكم مفتي الجهة الكائنة فيها، وترسل له أوراقها ويلزم إعادتها خلال ثمانية أيام مصحوبة بردّه، وبعد أخذ رأي المفتي تحكم المحكمة بالعقوبات المقررة في قانون العقوبات". 

حتى اليوم يجد القضاء المصري صعوبة في إعادة النظر في جملة بقي يرددها منذ عام 1883 دون أن يعنيها

​​في ذلك العام من القرن التاسع عشر، كان حاكم مصر هو الخديوي توفيق باشا وكانت مصر تابعة اسميا للسلطان العثماني الذي كان بمثابة أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ولذلك لم يكن من المستغرب في ذلك العصر أن تحال أحكام الإعدام للمفتي لتوضيح رأي الشرع فيها.

ولكن منذ عام 1883 تطورت الأحكام والإجراءات القضائية في جميع الدول التي كانت تتشكل منها الدولة العثمانية، حتى أن عقوبة الإعدام قد تم إلغاؤها تماما في تركيا خليفة الدولة العثمانية، كما لم تنفذ أحكام إعدام في دول المغرب العربي منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، مع أن المسلمين يشكلون 99 في المئة من مواطني تلك البلدان، وحتى الدول العربية التي لم تلغ عقوبة الإعدام، والتي تعتبر إلغاءها مخالفا للشريعة الإسلامية، لا تقوم بإحالة الأوراق إلى المفتي بل إلى رئيس الدولة أو الملك للمصادقة عليها، بما فيها الدول التي تعلن أنها تطبّق الشريعة الإسلامية.

وتم إصدار قوانين جديدة في مصر بعد عام 1883، وطبقت إجراءات جديدة في أصول المحاكمات، وعدلت كثير من القوانين القديمة لتتماشى مع العصر، كان أهمها قانون العقوبات المصري لعام 1937، وقانون الإجراءات الجنائية لعام 1950، وتغيّرت خلالها كثير من الإجراءات والعقوبات، ما عدا إحالة الأوراق إلى المفتي التي حافظت على وجودها، رغم أنها تتجاهل معتقدات الملايين من المصريين الذين لا يتّبعون الدين الإسلامي. 

استمرار استخدامها أصبح مسيئا لمصر

​​وبحسب بعض المدافعين عن بقاء هذه الإحالة فإن قانون الإجراءات الجنائية لا يفرّق بين أبناء البلد الواحد! وهذا صحيح لأنه جعلهم جميعا مسلمين يجب تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عليهم.

في القانون المصري الحالي هناك عشرات الجرائم التي تصل عقوبتها للإعدام منها 12 حالة تتعلق بالاعتداء على أمن الدولة من جهة الخارج، و14 جريمة مرتبطة بالاعتداء على أمن الدولة من جهة الداخل، وهناك عشر جرائم مرتبطة بقضايا مكافحة المخدرات، كما أن هناك عشر جرائم مرتبطة بقانون الأحكام العسكرية، وهناك جرائم تتعلق بقانون الأسلحة والذخائر، كما تم إضافة بنود تتعلق بمكافحة الإرهاب، وجميع هذه الأحكام لا علاقة لها بالشريعة الإسلامية، ولا يوجد في الشريعة ما يشير إليها لأنها مرتبطة بقضايا ومواضيع حديثة أفرزها التطور البشري، ولذلك يبدو طلب رأي المفتي فيها مستغربا.

وفي سياق تبرير إحالة الأوراق إلى المفتي قال الدكتور المحامي عماد الفقي "إن من شأن ذلك أن يدخل في روع المحكوم بالإعدام أن الحكم إنما قد أتى وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية إلى جانب ما لهذا من وقع لدى الرأي العام". ولكن قيام رجال الدين بدور القضاة لم يترك طوال تاريخ الإنسانية شعورا بالرحمة أو حتى بالعدل، فالقضاة من رجال الدين (أي دين) كانوا دائما الأكثر تشددا وقسوة، ومحاكم التفتيش التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى كانت من الأمثلة على ذلك، وآية الله صادق خلخالي في إيران كان مثالا آخر، حين قام بعد انتصار الثورة الإسلامية بجولات في طول إيران وعرضها أعدم خلالها أعدادا لا يمكن حصرها من الإيرانيين، ويتوضّح ذلك اليوم في أشكال القضاة والمدعين العامّين في الدول التي تقول إنها تطبق الشريعة الإسلامية والذين توحي ملامحهم بشخصيات قادمة من أفلام الرعب، ويقومون بتنفيذ عقوباتهم في الساحات وأمام الجمهور لإيمانهم بأن قسوة الأحكام تؤدي إلى زرع الخوف في المجتمع وتجعل المحكوم عبرة للآخرين.

في خمسينيات القرن الماضي تحوّل النظام السياسي في مصر إلى حكم عسكري فردي، وقلّت الحاجة إلى مظاهر فصل السلطات واستقلال القضاء، فأصبحت إحالة الأوراق إلى المفتي خطوة شكلية، وتم تجسيد ذلك في القوانين التي صدرت لتواكب هذا التحول، حيث لم تعد المحكمة ملزمة بالأخذ برأي المفتي الذي أصبح مقتصرا على الاسترشاد دون حاجة للالتزام به، وفي حال لم تستلم المحكمة رد المفتي بعد عشرة أيام من إرسال الأوراق إليه تحكم بالقضية من دون انتظار رأيه. 

ومع ذلك فقد استمر هذا الإجراء رغم أنه أصبح شكليا، لأنه سمح للسلطة السياسية بالادعاء بأن الأحكام القضائية قد صدرت حسب الشريعة الإسلامية رغم أن الهدف من بعضها كان ضرب معارضيها، أي استخدمت السلطة السياسية المرجعية الدينية كغطاء لأحكامها. وفي الطرف المقابل، وافقت المؤسسة الدينية على القيام بهذا الدور رغم أنه شكلي، لأنه يؤكد على أنها ما زالت تمتلك بعض السلطة والتحكّم.

لقد عبّرت الجملة المسرحية "إحالة الأوراق إلى فضيلة المفتي" عن الاتفاق بين السلطة الحاكمة والمؤسسة الدينية على تقاسم الأدوار على حساب الشعب، إحداهما تريد السلطة والثانية تريد حصة من النفوذ والثروة والعمل على أسلمة المجتمع.

القضاة من رجال الدين (أي دين) كانوا دائما الأكثر تشددا وقسوة

​​حتى اليوم يجد القضاء المصري صعوبة في إعادة النظر في جملة بقي يرددها منذ عام 1883 دون أن يعنيها، مع أن الدول العربية قد توقفت عن استعمالها، ومع أن استمرار استخدامها أصبح مسيئا لمصر، فهي لا تخدم السلطة السياسية لأنها توحي بأنها ذات طابع ديني وبأنها لا تعدل بين المكونات المختلفة لشعبها، كما أنها لا تخدم المؤسسة الدينية لأنها تجعلها تبدو شريكة للسلطة السياسية عندما تمنحها غطاء شرعيا لبعض الأحكام القضائية ذات الخلفية السياسية، كما تبعث على الشك في مواكبة المؤسسة القضائية المصرية للعصر.

واستمرار هذا الوضع طوال هذه العقود يدل على درجة من الجمود التشريعي والفكري في مصر، وعلى غياب الشخصيات القيادية الخلّاقة صاحبة المبادرة في الطبقة السياسية والدينية والقانونية، وهيمنة شخصيات تبعية تقليدية على مراكز صنع القرار لا تملك ما يكفي من الجرأة لطرح أمثال هذه المواضيع لإعادة النظر والمراجعة رغم أنها بسيطة وبديهية.

اقرأ المقال أيضا: تفكّك الدولة الوطنية في إقليم شرق المتوسط

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.