ميكيافيللي جالسا مع تشيزري بورجا (مكتبة الكونغرس)
ميكيافيللي جالسا مع تشيزري بورجا (مكتبة الكونغرس) | Source: Courtesy Image

فارس خشّان/

ثمة حدث جلل في "عالم ما بعد الموت".

نيكولو مكيافيلي يحمل الريشة من جديد كاتبا، لمرة واحدة وبصورة استثنائية، بشفاعة ملهمه الثقافي ومواطنه الفلورنسي دانتي أليغييري الذي وجد أن الحياة على أجزاء واسعة من الأرض، أضحت أسوأ من الحياة في الجحيم الذي وصفه في الجزء الأول من كتابه "الكوميديا الإلهية".

وقد صرخ مكيافيلي، مرات ومرات، بعدما نشروا له كتاب" الأمير"، منذ ما يقارب خمسة قرون، متبرئا من هؤلاء الذين يستعملون اسمه تبريرا لأفعالهم التدميرية، لكن صوته كان يتردد حصرا في "عالم الصم"، إلى أن تدخل دانتي مشفقا، واستحصل له على إذن خاص بأن يكتب لأهل الأرض عموما ولأبناء الشرق الأوسط خصوصا.

من منكم لا يصدق ما ورد في رسالتي هذه أحيله على قراءة كتابي "الأمير" ليتأكد بنفسه 

​​وهذا ما جاء في رسالة مكيافيلي التي انتهى من كتابتها قبل ساعات:

"يا أبناء الأرض...

لا تغيب شمس يوم واحد من دون أن تسمعوا باسمي.

غالبيتكم تلعنني. كلّما قُتل واحد من بينكم في مؤامرة، أو خسر ماله في عملية لصوصية، أو رُمي في معتقل، وكلما بليت أوطانكم بحاكم حقير، أو حاز سخيف على تعظيم، أو تقدّم غبي من المنبر، أو ارتقى انتهازي في المجتمع، تفعلون ذلك.

لا ألومكم على لعنتكم إياي. ثمة من علّمكم، من خمسة قرون حتى اليوم أن هؤلاء "مكيافيليون" أي أن هؤلاء، وفق ما زعموه أمامكم، يسيرون، بموجب إرشاداتي، فيقتلوا ويسرقوا ويظلموا ويتملّقوا ويغدروا ويستخبثوا ويجبنوا ويستغلوا اسم الله.

يا أبناء الأرض...

إنني بريء من هؤلاء وأفعالهم...

كتبت "الأمير" لكنني لم أنشره. وجهته، في حينها، الى أمير حاكم، حتى يُحسن إدارة شؤون السلطة، ويؤمن بعاطفة الناس، ويحيط نفسه بأفضل الأعوان، وحتى أضخ فيه شجاعة المواجهة تحريرا لبلادي المحتلة وتوحيدا لها بعدما أسقطها التشرذم، ومن أجل أن يعمل على "علمنتها" بفصل السياسة عن الدين بعدما أرهقها الانحراف هنا والتشدد هناك.

لم أخطه، في حينه، ليكون دليلا للطامحين إلى السلطة بل مرشدا لحاكم فعلي. لم أقصد فيه أن أعلم المحكوم أن يستغل كل الوسائل ليصبح حاكما، بل أن يتوسل الحاكم كل ما يملك من قدرات حتى يحصّن نفسه بناسه وبشجاعته وبمعاونيه ويتخلّى عن المرتزقة ومرتكبي المجازر ويتوقف عن فرض الضرائب المرهقة وعن توسل المحتل الأجنبي لتثبيت سلطته.

يا أهل الأرض...

أنا على يقين بأنّ كلماتي هذه حين تصلكم ستصيبكم بالدهشة، لأنكم اعتدتم أن تسمعوا بأن كل من يرتكب موبقة هو "مكيافيلي"، حتى حسبتم أنكم إذا ما رميتم في الجحيم الذي أبدع بوصفه دانتي أليغييري الذي تتلمذت على يده، إنما يكون ذلك نتاجا بديهيا لإرشاداتي.

لا...

مرتكبو المجازر المتنقلة ليسوا "مكيافيليين"، فأنا نصحت أميري بأن يتجنّب المجازر في حروبه...

والسلطويون الذين يهينون الناس ويستخفون بهم وينكلون بهم ليسوا مكيافيليين، فأنا نصحت أميري بأن يحصّن نفسه بعاطفة الناس ولذلك كتبت له بأوضح الوضوح بأن" أفضل القلاع التي يمكن أن يملكها الأمير تكون في عاطفة شعبه".

لم أخط "الأمير" ليكون دليلا للطامحين إلى السلطة بل مرشدا لحاكم فعلي

​​وهؤلاء الذين يتوسلون السلطة بالاستعانة بالخارج ليسوا مكيافيليين، وقد كنت مباشرا بكتاباتي لهذه الجهة، رافضا الاستعانة بالفرنسي أو بالإسباني، لتحقيق المكاسب السياسية.

إن هؤلاء الذين يحيطون أنفسهم بنوع سيء من المعاونين ليسوا مكيافيليين. لقد كتبت بأنصع الحروف عن ذلك، إذ ذكرت أنه عندما نريد الحكم على قدرات الأمير، إنما نبدأ بتقييم الأشخاص الذين يحيط نفسه بهم، فهو لا يكون حكيما إلا إذا كان هؤلاء مميّزين.

كما أن هؤلاء الذين يسخرون من الشجاعة ليسوا مكيافيليين، وكم فاضت ريشتي وهي تخط هذه التوجيهات، فحظرت على الأمير أن يكون مترددا وخفيفا، ودعوته إلى أن يكون، عند الضرورة قاسيا، لأنه بتقديم أمثلة قليله عن الحزم، يتمكن بالنتيجة أن يحكم برأفة أكبر من هؤلاء الذين بفائض من الشفقة يتركون الأمور تتفاقم بالفوضى المنتجة للجرائم والموبقات، وكتبت له أن الأمير الذي لا يجبن بسبب الخوف على حياته يصبح سيدا على حياة الآخرين، كما أنه يجب ألا يستكين إلى حظه، لأن الحظ هو نصف الطريق والنصف الطريق المتبقي هو متروك لوعيه وجهده وحكمته وشجاعته.

وهؤلاء الذين "يتثعلبون" دائما ليسوا مكيافيليين، فأنا واثق بنصيحتي التي وجهتها وهي أن على الأمير أن يتمتع بمزايا الثعلب والأسد في آن. ثعلب حتى يتبيّن الأفخاخ المنصوبة له، وأسد حتى يتمكن من الإنقاض على كل من يتهدد سلطته وحياة شعبه.

 إنّ من ينحنون أمام القوي بحجة تجنّب الحرب ليسوا مكيافيليين، وشرحت تفصيليا كيف أن هذا الدافع يؤتي بثمار عكسية، لأنه يزرع الاضطراب، والاضطراب يقضي على أوراق القوة، وتاليا يحقق الأمير المتخاذل للقوة التي يتجنّب مواجهتها أهدافها والى آجال بعيدة.

يا أهل الأرض...

لم أكتف بنصح الأمير، في كتابي، بل في الوقت نفسه، حرصتُ على توجيه نصائح غير مباشرة إلى الناس، بإفهامها أنه يمكن التلاعب بها وبمصالحها، لأنها لا ترى بعينيها إنما بأذنيها، وبأنه عليها أن تتخطى ظاهر الأمور لتتبيّن الحقائق المخفية، وشجعتُ المضطهدين والمظلومين المقموعين على حمل السلاح.

وفي مطلق الأحوال، كان كتابي، بكل ما فيه من معطيات، ابن بيئته، أي ابن العصور الوسطى، حيث كانت المجازر خبرا يوميا، والمحارق جهنما فكريا، والانحرافات سلوكيات بديهية، والديكتاتوريات أنظمة طبيعية، والقوي يملك الضعيف، والغني يستعبد الفقير.

يا أهل الأرض...

ما كتبته، في حينه، كان ثورة على الجبن والاتكالية والعمالة والمظلومية والظلامية والسخافة والغباء والإجرام والأذية، من دون أن أغرقه بالمثاليات الأفلاطونية التي لم تكن لها لا تربة صالحة ولا آذان صاغية.

يؤسفني في زمنكم هذا، حيث انتشرت أفكار التنوير، وتعرفتم على النظم الديمقراطية، وحررت أديانكم من الأساطير، وأوقفتم المحارق الثقافية، وتخليتم عن نظام العبودية، وأقمتم المحاكم الوطنية والدولية، وانتقلت الكتب لتسكن، ليس في أحيائكم فقط بل في هواتفكم أيضا، أن أعرف أن بين حكامكم من هو أكثر إجراما من أعتى ملوكنا وأمرائنا، أو أكثر ترددا وجبنا من أضعف رجالاتنا، وأن بين شعوبكم شعوبا يمكن أن تسكت على إفقارها واستعبادها واعتقالها وسحلها ونفيها وتهجيرها وقتلها جماعيا...

ما كتبته، في حينه، كان ثورة على الجبن والاتكالية والعمالة والمظلومية والظلامية

​​يا أهل الأرض...

تكثرون من استعمال مصطلح المكيافيلية ولكن ليس بينكم حتى مكيافيلي واحد...

وهذه رسالة لكم لأبرئ ذمتّي من الهلاك الذي يصيبكم وسوف يتفاقم.

ومن منكم لا يصدق ما ورد في رسالتي هذه أحيله على قراءة كتابي "الأمير" ليتأكد بنفسه من صحة كل حرف ورد هنا.

وفي الختام، أهدي اليكم السلام من دانتي أليغييري الذي يذرف عليكم الدموع، لأنه لم يتصوّر يوما أن الجحيم الذي تخيّله للأموات يمكن أن ينتقل ليحتضن هذا العدد الهائل من الأحياء...

بفائق الاحترام والشفقة

نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلي

اقرأ للكاتب أيضا: الفلسطينيون وخطة جاريد كوشنير

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.