كوشنر عارضا تفاصيل الخطة الاقتصادية خلال ورشة "الرخاء مقابل السلام"
كوشنر عارضا لتفاصيل الخطة الاقتصادية خلال ورشة "الرخاء مقابل السلام"

عمران سلمان/

يمكن القول إن صفقة القرن أو فرصة القرن أو أي من الأسماء التي أطلقت على ورشة البحرين الاقتصادية الخاصة بعملية السلام في الشرق الأوسط، قد أعادت القضية الفلسطينية من جديد إلى دائرة الضوء بعد أن بدا أنها قد انتقلت مؤقتا إلى الهامش بفعل الأزمات والحروب المتلاحقة في المنطقة.

قراءة خاطئة

وإعادة القضية الفلسطينية إلى الأضواء هذه المرة لا يتم بسبب مبادرات أو خطط سياسية مثل تلك التي عهدناها طوال الثلاثين عاما الماضية. ولكن في إطار مقاربة جديدة، اقتصادية في الدرجة الأولى. وهو أمر يبدو غير مألوف بالنظر إلى أن السياسة كانت دائما هي المظلة الأكبر للقضية الفلسطينية، ومنها تتفرع باقي المسائل.

فرغم ظروفهم الاقتصادية الصعبة والآخذة في التعقيد، لم يضع الفلسطينيون، أو على الأقل قيادتهم، مسألة تحسين الأوضاع الاقتصادية في صدارة جدول أعمالهم طوال العقود الماضية. بل ظلت مطالبهم الرئيسية نفسها وهي استعادة القدس الشرقية والعودة إلى حدود عام 1967 وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين وإقامة الدولة المستقلة. بمعنى آخر فإن الشق الاقتصادي، وإن كان حاضرا باستمرار، فإنه ليس في جوهر القضية.

لا يمكن النجاح اقتصاديا من دون إصلاح سياسي

​​ولكن ما الذي جعل جاريد كوشنر وغيره من مهندسي صفقة القرن، يركزون جهدهم على الشق الاقتصادي ويسعون إلى تقديمه إلى الفلسطينيين والدول العربية باعتباره المدخل الأساس لحل القضية الفلسطينية؟

يبدو لي أن ثمة قراءة أميركية جديدة للمنطقة، مهدت لها سلسلة من العوامل، والتي ربما أقنعت الجانب الأميركي، عن طريق الخطأ، أن الاقتصاد هو مفتاح حل القضية الفلسطينية، وأن الفلسطينيين سوف يقبلون بأي شيء طالما ضمنوا حصولهم على أموال وموارد تؤمن لهم وضعا اقتصاديا مستقرا.

الصراع مع إيران

من هذه العوامل الجديدة، الصراع العربي ـ الإيراني (أو الصراع السني ـ الشيعي). فمنذ عام 2003، جرى تصوير هذا الصراع على أنه الصراع الرئيسي في المنطقة. وتحدث عدد من الزعماء عن "القوس الشيعي" وعن النفوذ الإيراني في العراق وفي سوريا وغيرها، فيما برز دور الجماعات الشيعية المسلحة في كل مكان. وزادت الأزمة السورية، ثم أزمة اليمن، من حدة الاستقطاب والعداء إلى درجات غير مسبوقة.

حتى أن العديد من الباحثين والمحللين في الغرب، باتوا يتعاملون مع ما يجري في المنطقة العربية كله من زاوية هذا الصراع. ولفترة لا بأس بها، بدا أن قضية العرب الأولى قد تحولت من الشأن الفلسطيني إلى الصراع مع إيران، وأن عدوهم "الرئيسي" لم يعد إسرائيل. بل أن إسرائيل نفسها أصبحت تتحدث بوصفها ضحية للنفوذ والهيمنة الإيرانية، مما خلق تحالفا موضوعيا ما بين بعض الدول العربية وإسرائيل في مواجهة إيران.

وبطبيعة الحال فإذا كان الأمر هو كذلك، من المنطقي أن يستنتج كثيرون في العالم، وبينهم السياسيون الأميركيون، أن ما يشغل أو يهم العرب ودولهم حاليا هو ليس القضية الفلسطينية، إنما مواجهة الخطر الإيراني. وبالتالي لن يمانع العرب في أي مقاربة لحل القضية الفلسطينية، حتى وأن كانت لا تروق للفلسطينيين أنفسهم.

الاقتصاد لا يحل كل شيء

العامل الآخر، هو الاعتقاد الخاطئ بأن الفقر وليس شيئا آخر هو الذي يغذي أو يؤجج العنف والتشدد في المنطقة. وإنه عبر تحسين المستوى الاقتصادي وتوفير فرص عمل لمئات آلاف الشباب في المنطقة، يمكن المباعدة بينهم وبين الشعارات الراديكالية والجنوح إلى التطرف.

رغم ظروفهم الاقتصادية، لم يضع الفلسطينيون، مسألة تحسين الأوضاع الاقتصادية في صدارة جدول أعمالهم

​​لا شك بأن تأهيل المنطقة اقتصاديا من شأنه أن يجفف بعض منابع التطرف ويغير من المزاج العام لسكانها. ولكن الحقيقة الواضحة أنه لا يمكن النجاح اقتصاديا من دون إصلاح سياسي، فالاستبداد والظلم والفساد والاستئثار بالسلطة، كلها عوامل تجعل أي مشروع اقتصادي يفشل مهما توافرت له من عوامل النجاح.

ومثلما ينطبق ذلك على أية قضية أخرى، فهو ينطبق أيضا على القضية الفلسطينية. فلا يمكن حلها أو اختزالها في المسألة الاقتصادية. ومثلما أن تنمية المناطق الفلسطينية والتركيز على رفع مستوى معيشة سكانها أمر مطلوب، وهو توجه حكيم، فإنه ليس بديلا عن الحلول السياسية التي يجب أولا، أن تقنع الفلسطينيين بجدواها، وثانيا، يرى فيها غالبية الإسرائيليين أمرا يستطيعون قبوله والتعايش معه. بخلاف ذلك فإن الدول العربية حتى وإن وافقت على بعض الحلول، رغما عن إرادة الفلسطينيين، فإن مصيرها هو الفشل، كمصير الكثير من "الحلول" المطبقة في بلداننا.

اقرأ للكاتب أيضا: خيارات الحرب والسلام في المنطقة

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.