من افتتاح  "معرض شيكاغو الكولومبي العالمي" عام 1893 (مكتبة الكونغرس)
من افتتاح "معرض شيكاغو الكولومبي العالمي" عام 1893 (مكتبة الكونغرس) | Source: Courtesy Image

كوليت بهنا/

في تتبع مسار رحلة أي مبدع حقيقي في العالم انتهت سيرته الذاتية فيزيائيا، يثبت مرة تلو الأخرى، أن هذه الرحلة الشاقة والمضنية، لا يعود نجاحها بفضل موهبة فطرية أو ضربة حظ أو الاستناد إلى نسب عائلة شهيرة أو دعم حكومي أو أهلي، وهي عوامل يمكن اعتبارها قدرية وغير ثابتة، قد تلعب واحدة منها أو أكثر دورا مساندا في إنجاح مفصل من مفاصل هذه الرحلة، لكنها لا تصنعه في المطلق، ويدرك أي مبدع في قرار ذاته، أن نجاحه يرتكز أولا وأخيرا على جلاء حلمه، وأصالة الرسالة التي يحملها، وثباته في حمايتها من تقلبات نفسه وشدائد الزمن الذي يواجهه، والأهم هو مرونته واجتهاده على تطوير الذات، ومثابرته نحو النهاية، التي تشكل في عالم الإبداع نقطة الانطلاق الخلاقة نحو الخلود.

تشكل هذه المقدمة، الترجمة الحرفية لمسار رحلة المبدع الدمشقي "أحمد بن محمد بن حسين آقبيق" الشهير بالشيخ "أحمد أبي خليل القباني"، الرائد المسرحي والموسيقي" الأكثر تأثيرا في القرن التاسع عشر، ليس في بلاد الشام فحسب بل في عموم المشرق العربي وأسئلته التأصيلية حول الفرجة المسرحية" والتي أعيد تسليط الأضواء عليها، عبر كتابين صدرا مؤخرا للكاتب والباحث الفلسطيني السوري تيسير خلف، يحمل الأول عنوان: "من دمشق إلى شيكاغو ـ رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893"، وهو الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات 2017 ـ 2018، وواحد من منشورات سلسلة " ارتياد الآفاق ـ المركز العربي للأدب الجغرافي" 2018 التي يشرف عليها نوري الجراح. فيما يحمل الكتاب الثاني عنوان: "وقائع مسرح أبي خليل القباني 1873 ـ 1883 ـ حقائق ووثائق تنشر للمرة الأولى" الصادر عن دار المتوسط 2019.

لاقت زيارة قباني احتفاء حارا من الصحافة والجمهور الأميركي والجاليات السورية والعربية في أميركا

​​يهيمن الشيخ القباني على بطولة الكتابين كموضوع وسيرة ذاتية، برؤى جديدة ومختلفة كليا عما قدم للمكتبة العربية من كتب وأبحاث سابقة تخص سيرة هذا المبدع الدمشقي. وإذ يمكن اعتبار هذين الكتابين مكمّلين لبعضهما، إلا أنهما لا يصنّفان كجزئين متسلسلين، بل يثبت كل منهما هويته الخاصة، ليشكلا معا مُنتَجين أشبه بتوأم، مستقلين إبداعيا لكنهما مترابطين روحيا.

ويتجلى خلف الجهود الصعبة المبذولة لصناعتهما، شغف الباحث تيسير خلف وتورطه الظاهر بعشق رائد المسرح الشيخ القباني وسيرته، الذي يصف ولادته في زمن مفصلي بين أفول السلطنة العثمانية وتنازع الدول العظمى لتقاسم تركة "الرجل المريض"، ونتائج هذا "الصراع العنيف بين البنى التقليدية المعادية للتغيير وتلك الساعية لمواكبة العصر". تفتحت موهبة الشيخ القباني في خضم هذا الظرف التاريخي كما يشير الباحث في مقدمته، وكان الشيخ القباني بذاته "أحد عناوين هذا الصراع ورمزا من رموز التحطيم والتحديث، لتشكل سيرة أبي خليل جزءا من التاريخ الاجتماعي ـ السياسي لمدينة دمشق في نهايات القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي رسمت في غرفه المغلقة مصائر بلاد الشام لمئة عام.. وربما أكثر".

في كتابه الأول"من دمشق إلى شيكاغو ـ رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893"، يتتبع الباحث مسار هذه الرحلة المجهولة التي تمّ التشكيك بحدوثها أو مشاركة الشيخ القباني بفعالياتها في كل مصادر البحث ومؤرخي الحركة الفنية السورية والعربية والمخطوطات والكتب المسرحية العربية السابقة، لعدم العثور على أية وثيقة تثبت هذه المشاركة. وكان الغرض من هذه الرحلة المشاركة الفنية في فعاليات "معرض شيكاغو الكولومبي العالمي" الذي كان يقام في حينه بين مطلع شهر مايو ونهاية أكتوبر من كل عام، وبصفة الشيخ القباني مديرا للممثلين في "مرسح العادات الشرقية" قبل أن تستبدل الكلمة بمسرح.

لكن الباحث "خلف" لم يستسلم وتحرك بدافع إثبات الحقيقة، فانطلق خلف مواطنه الدمشقي خطوة خطوة في أربع جهات الأرض، في البر والبحر، مرتديا معطف المحقق كولومبو، ومعتمرا قبعة رحالة وباحث شغف بالمدن وأدب الرحلات، هاجسه العودة بإثبات لهذه الرحلة الغامضة بعد مرور أكثر من مئة عام عليها، فاقتحم بصبر الأوراق الصفراء في أرشيف كبرى الصحف العربية والأميركية التي واكبت هذا الحدث، ودقق بمكبر القلب الوثائق العثمانية العسيرة والمبعثرة وترجمها وحقق فيها، وتغلغل بانسيابية في وثائق الخارجية الأميركية وغيرها من مصادر وأماكن البحث، إلى أن أثبت حقيقة الرحلة وعاد بيده الوثائق الحية والصور الفوتوغرافية التي تثبت وصول أبي خليل القباني إلى نيويورك على رأس فريق فني من دمشق وبيروت وجبل لبنان وبيت لحم، ضمّنها في كتابه ـ الكنز البحثي، ونشر جميع الوثائق والأسماء المتعلقة بالرحلة التي لاقت احتفاء حارا من الصحافة والجمهور الأميركي والجاليات السورية والعربية في أميركا، وذكر على لسان مراسل صحيفة "بيتسبيرغ ديبيتش" بأن "شيخا وقورا يرتدي معطفا طويلا، كان يؤدي قبل بدء العروض النشيد الأميركي (بلدي ـ أميركا)"، الذي كان معتمدا آنذاك، مترجما إلى العربية، مضيفا على لسان المراسل إنه "لم يسبق لغيره أن منح شرف تأدية النشيد الأميركي بصوته تكريما له ولدوره في هذا البرنامج الاستعراضي الكبير".

لا يقل الجهد الذي بذله الباحث "خلف" في دروب رحلته الشاقة في هذا الكتاب، عما سبقه إليه شيخه الفاضل القباني

​​التركيز على رحلة الشيخ القباني التي كشف عنها الباحث ضمن هذا الكتاب الهام الذي يضم العديد والجديد من تفاصيل السيرة الذاتية للشيخ القباني، والخلفية التاريخية والسياسية والاجتماعية والفنية والثقافية التي عاش في عصرها، والتي صيغت جميعها بأسلوب الأدب التاريخي والتوثيقي السلس والشيق، ليس الهدف منه التركيز على أن رحلة أميركا هي أهم ما أنجزه المبدع القباني، إنما كشف اللبس الذي رافقها بحب وشغف البحث أولا، والإضاءة على هذه الرحلة التي عاشها الشيخ الفاضل في الخمسين من عمره، وتقدير مصاعبها في حينه من صعوبات وتكاليف سفر وتحضيرات لوجستية وغيرها، واعتبارها "واحدة من أندر تجارب التفاعل المباشر بين الجمهور الأميركي ونخبته الثقافية، بما تحمله من أفكار ورؤى حول الشرق"، وإعادة تركيز صورة الشيخ الفاضل في أذهان العرب بوصفه "رسول ثقافة ومحاورا ندّا يتطلع عبر فنّ المسرح إلى رسم صورة للشخصية الثقافية الشرقية وتطلعاتها لدى الأميركيين" كما يشير الناشر.

لا يقل الجهد الذي بذله الباحث "خلف" في دروب رحلته الشاقة في هذا الكتاب، عما سبقه إليه شيخه الفاضل القباني في رحلة إبداعه الطويلة، ويحق لمنجزي الرجلين الإبداعيين معا، أن يعتليا رفوف أهم مكتبات العالم بكثير من الفخر.

اقرأ للكاتبة أيضا: رجم الأرملة

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.