في تتبع مسار رحلة أي مبدع حقيقي في العالم انتهت سيرته الذاتية فيزيائيا، يثبت مرة تلو الأخرى، أن هذه الرحلة الشاقة والمضنية، لا يعود نجاحها بفضل موهبة فطرية أو ضربة حظ أو الاستناد إلى نسب عائلة شهيرة أو دعم حكومي أو أهلي، وهي عوامل يمكن اعتبارها قدرية وغير ثابتة، قد تلعب واحدة منها أو أكثر دورا مساندا في إنجاح مفصل من مفاصل هذه الرحلة، لكنها لا تصنعه في المطلق، ويدرك أي مبدع في قرار ذاته، أن نجاحه يرتكز أولا وأخيرا على جلاء حلمه، وأصالة الرسالة التي يحملها، وثباته في حمايتها من تقلبات نفسه وشدائد الزمن الذي يواجهه، والأهم هو مرونته واجتهاده على تطوير الذات، ومثابرته نحو النهاية، التي تشكل في عالم الإبداع نقطة الانطلاق الخلاقة نحو الخلود.
تشكل هذه المقدمة، الترجمة الحرفية لمسار رحلة المبدع الدمشقي "أحمد بن محمد بن حسين آقبيق" الشهير بالشيخ "أحمد أبي خليل القباني"، الرائد المسرحي والموسيقي" الأكثر تأثيرا في القرن التاسع عشر، ليس في بلاد الشام فحسب بل في عموم المشرق العربي وأسئلته التأصيلية حول الفرجة المسرحية" والتي أعيد تسليط الأضواء عليها، عبر كتابين صدرا مؤخرا للكاتب والباحث الفلسطيني السوري تيسير خلف، يحمل الأول عنوان: "من دمشق إلى شيكاغو ـ رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893"، وهو الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات 2017 ـ 2018، وواحد من منشورات سلسلة " ارتياد الآفاق ـ المركز العربي للأدب الجغرافي" 2018 التي يشرف عليها نوري الجراح. فيما يحمل الكتاب الثاني عنوان: "وقائع مسرح أبي خليل القباني 1873 ـ 1883 ـ حقائق ووثائق تنشر للمرة الأولى" الصادر عن دار المتوسط 2019.
يهيمن الشيخ القباني على بطولة الكتابين كموضوع وسيرة ذاتية، برؤى جديدة ومختلفة كليا عما قدم للمكتبة العربية من كتب وأبحاث سابقة تخص سيرة هذا المبدع الدمشقي. وإذ يمكن اعتبار هذين الكتابين مكمّلين لبعضهما، إلا أنهما لا يصنّفان كجزئين متسلسلين، بل يثبت كل منهما هويته الخاصة، ليشكلا معا مُنتَجين أشبه بتوأم، مستقلين إبداعيا لكنهما مترابطين روحيا.
ويتجلى خلف الجهود الصعبة المبذولة لصناعتهما، شغف الباحث تيسير خلف وتورطه الظاهر بعشق رائد المسرح الشيخ القباني وسيرته، الذي يصف ولادته في زمن مفصلي بين أفول السلطنة العثمانية وتنازع الدول العظمى لتقاسم تركة "الرجل المريض"، ونتائج هذا "الصراع العنيف بين البنى التقليدية المعادية للتغيير وتلك الساعية لمواكبة العصر". تفتحت موهبة الشيخ القباني في خضم هذا الظرف التاريخي كما يشير الباحث في مقدمته، وكان الشيخ القباني بذاته "أحد عناوين هذا الصراع ورمزا من رموز التحطيم والتحديث، لتشكل سيرة أبي خليل جزءا من التاريخ الاجتماعي ـ السياسي لمدينة دمشق في نهايات القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي رسمت في غرفه المغلقة مصائر بلاد الشام لمئة عام.. وربما أكثر".
في كتابه الأول"من دمشق إلى شيكاغو ـ رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893"، يتتبع الباحث مسار هذه الرحلة المجهولة التي تمّ التشكيك بحدوثها أو مشاركة الشيخ القباني بفعالياتها في كل مصادر البحث ومؤرخي الحركة الفنية السورية والعربية والمخطوطات والكتب المسرحية العربية السابقة، لعدم العثور على أية وثيقة تثبت هذه المشاركة. وكان الغرض من هذه الرحلة المشاركة الفنية في فعاليات "معرض شيكاغو الكولومبي العالمي" الذي كان يقام في حينه بين مطلع شهر مايو ونهاية أكتوبر من كل عام، وبصفة الشيخ القباني مديرا للممثلين في "مرسح العادات الشرقية" قبل أن تستبدل الكلمة بمسرح.
لكن الباحث "خلف" لم يستسلم وتحرك بدافع إثبات الحقيقة، فانطلق خلف مواطنه الدمشقي خطوة خطوة في أربع جهات الأرض، في البر والبحر، مرتديا معطف المحقق كولومبو، ومعتمرا قبعة رحالة وباحث شغف بالمدن وأدب الرحلات، هاجسه العودة بإثبات لهذه الرحلة الغامضة بعد مرور أكثر من مئة عام عليها، فاقتحم بصبر الأوراق الصفراء في أرشيف كبرى الصحف العربية والأميركية التي واكبت هذا الحدث، ودقق بمكبر القلب الوثائق العثمانية العسيرة والمبعثرة وترجمها وحقق فيها، وتغلغل بانسيابية في وثائق الخارجية الأميركية وغيرها من مصادر وأماكن البحث، إلى أن أثبت حقيقة الرحلة وعاد بيده الوثائق الحية والصور الفوتوغرافية التي تثبت وصول أبي خليل القباني إلى نيويورك على رأس فريق فني من دمشق وبيروت وجبل لبنان وبيت لحم، ضمّنها في كتابه ـ الكنز البحثي، ونشر جميع الوثائق والأسماء المتعلقة بالرحلة التي لاقت احتفاء حارا من الصحافة والجمهور الأميركي والجاليات السورية والعربية في أميركا، وذكر على لسان مراسل صحيفة "بيتسبيرغ ديبيتش" بأن "شيخا وقورا يرتدي معطفا طويلا، كان يؤدي قبل بدء العروض النشيد الأميركي (بلدي ـ أميركا)"، الذي كان معتمدا آنذاك، مترجما إلى العربية، مضيفا على لسان المراسل إنه "لم يسبق لغيره أن منح شرف تأدية النشيد الأميركي بصوته تكريما له ولدوره في هذا البرنامج الاستعراضي الكبير".
التركيز على رحلة الشيخ القباني التي كشف عنها الباحث ضمن هذا الكتاب الهام الذي يضم العديد والجديد من تفاصيل السيرة الذاتية للشيخ القباني، والخلفية التاريخية والسياسية والاجتماعية والفنية والثقافية التي عاش في عصرها، والتي صيغت جميعها بأسلوب الأدب التاريخي والتوثيقي السلس والشيق، ليس الهدف منه التركيز على أن رحلة أميركا هي أهم ما أنجزه المبدع القباني، إنما كشف اللبس الذي رافقها بحب وشغف البحث أولا، والإضاءة على هذه الرحلة التي عاشها الشيخ الفاضل في الخمسين من عمره، وتقدير مصاعبها في حينه من صعوبات وتكاليف سفر وتحضيرات لوجستية وغيرها، واعتبارها "واحدة من أندر تجارب التفاعل المباشر بين الجمهور الأميركي ونخبته الثقافية، بما تحمله من أفكار ورؤى حول الشرق"، وإعادة تركيز صورة الشيخ الفاضل في أذهان العرب بوصفه "رسول ثقافة ومحاورا ندّا يتطلع عبر فنّ المسرح إلى رسم صورة للشخصية الثقافية الشرقية وتطلعاتها لدى الأميركيين" كما يشير الناشر.
لا يقل الجهد الذي بذله الباحث "خلف" في دروب رحلته الشاقة في هذا الكتاب، عما سبقه إليه شيخه الفاضل القباني في رحلة إبداعه الطويلة، ويحق لمنجزي الرجلين الإبداعيين معا، أن يعتليا رفوف أهم مكتبات العالم بكثير من الفخر.
اقرأ للكاتبة أيضا: رجم الأرملة
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).