يُصر النظام الإيراني على التمرس خلف الجغرافيا، متمسكا بمعادلة أنها الثابت الوحيد الذي يحميه وسط متغيرات كبرى ومتحولات قاسية، ويراهن عليها كحيز جغرافي يبقيه بمأمن من تهديدات الخارج ويعطيه المبرر الشرعي داخليا.
ونجح في الإضفاء على جغرافيا إيران السياسية عقيدة توسعية تلبي طموحات المدى الإيراني المفتوح على فرض نفوذ دائم خارج الحدود الوطنية، ووجد ضالته مبكرا في شعار تصدير الثورة التي شكلت الأداة الأكثر جاذبية في إعادة إنتاج الهيمنة على الجغرافيا المحيطة بإيران، فالرغبة التاريخية الإيرانية في تحقيق الهيمنة الخارجية بدأت مع الصوفيين وهي مستمرة الآن مع الإسلاميين حيث يستخدمها نظام الملالي منذ عام 1979 من أجل تحقيق الارتباط التاريخي بين النظام الحاكم والجغرافيا العقائدية، التي شكلت الذريعة التوسعية لكل من حكم بلاد فارس أكان سلطانا أو شاها أو ولي فقيه.
لكن رهان إيران التاريخي على الجيوسياسية اصطدم تاريخيا بثوابت جغرافية ضخمة وشرسة حاصرت طموحات إيران وقيدتها وحولتها في محطات كثيرة إلى عبء على المجتمع الإيراني الذي اضطر إلى الموائمة ما بين حاجة نظامه إلى استغلال الجغرافيا من أجل بقائه، وقدرته على تحمل الأثمان التي تفرضها الضرورات الجيوسياسية وحمايتها.
فقد فرضت هذه الضرورات على النظام الإيراني اللجوء الجغرافي إلى روسيا، رابطا ما بين نظامه الثوري وموقعه الجغرافي، ومصالح روسيا السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في منطقتي الشرق الأوسط والخليج العربي، في إعادة إنتاج واضحة للسياسات القاجارية التي خضعت للهيمنة القيصرية الروسية وحولت إيران إلى أداة روسية في مواجهة نفوذ بريطانيا العظمى حينها في إيران وشبه القارة الهندية وآسيا الوسطى.
هذا الانشغال الإيراني بالربط بين متلازمة النظام، "الثورة الجغرافيا"، وروسيا، نجح في نقل العلاقة المعقدة بين البلدين التي شهدت 4 حروب، وحالات عنف داخلي وانتفاضات واحتجاجات شعبية ضد الهيمنة والوصاية الروسية على إيران إلى مستوى الجيوعقائدي، عبّر عنه مُنظِر الأورآسيوية الروسي المفكر القومي ألكسندر دوغين بقوله "إن التحالف بين إيران وروسيا لا غنى عنه من أجل إقامة أوراسيا قوية ومستقلة وآمنة ومستقرة، فبإمكان العلاقة الإيرانية الروسية أن تتطور إلى مستوى أهم تحالف موجود بل ينبغي عليها ذلك، لتتمكن إيران من الدفاع عن نفسها ضد القوى الإمبريالية في الغرب، وفي الوقت نفسه السماح لروسيا بالانضمام إلى المياه الدافئة التي كانت دائما الهدف الرئيسي لسياستها الخارجية".
في المقابل تسبب خيار النظام في ربط "الثورة والجغرافيا" بروسيا إلى امتعاض نخب إيرانية، تشكل عصب الدولة التي تختلف بخياراتها الخارجية عن خيارات النظام، المتهم من قبل هذه النخب الاجتماعية والثقافية والطبقة الوسطى المتمسكة بخيار "الدولة والثروة" المرتبط تلقائيا بالغرب والذي يرفض هيمنة الثورة على الدولة ويقف بوجه تعطيل استغلال الثروة في سبيل حماية الجغرافيا.
هذا الامتعاض تحول في هذه المرحلة إلى استياء شعبي عام لدى الإيرانيين، المسكونين أصلا بهواجس الهيمنة الروسية وضرائبها القاسية على مجتمعهم واقتصادهم. فالذاكرة الإيرانية ما زالت مسكونة بهواجس التدخلات الروسية التاريخية بشؤونهم الداخلية، حيث انحازت موسكو دائما للأنظمة الاستبدادية على حساب تطلعات الشعب الإيراني وحقوقه، عندما وقفت إلى جانب حاكم إيران القاجري الفاسد والمستبد مظفر الدين شاه بوجهة الثورة الدستورية سنة 1906 وساعدته في قمع مطالب الشعب الإيراني في وضع الدستور، وقامت قوتها العسكرية "القوزاق" سنة 1908 بقصف البرلمان وإلغاء العمل بالدستور، مما أدى إلى اندلاع أعمال عنف، حيث تمكن الثوار من إلحاق الهزيمة بالقوات الروسية والسيطرة على طهران، مما أجبر الحاكم القاجاري محمد علي شاه على الفرار إلى السفارة الروسية، ومن ثم تنازله عن العرش بمساعدة بريطانية.
وبلغت الهيمنة الروسية على السيادة الإيرانية ذروتها عندما عينت الحكومة الإيرانية خبيرا ماليا أميركيا يدعى موركان شوستر سنة 1911 إضافة إلى مدربين عسكريين من أجل تطوير مستوى الجندرمية الإيرانية، فوجهت بطرسبرغ إنذارا شديد اللهجة إلى حكومة طهران طالبت فيه بطرد شوستر والمدربيين الأميركيين، وعندما رفض البرلمان الإيراني مطالب الروس، قامت قوات روسية إيرانية مشتركة باحتلال البرلمان، وأبلغت الحكومة الإيرانية شوستر بالمغادرة، وتسببت أعمال العنف حينها بفوضى مسلحة في عدة مدن إيرانية وأدت إلى قيام المدفعية الروسية إلى قصف مرقد الإمام الرضا في مدينة مشهد.
عود على بدء، إلى ألكسندر دوغين الذي زار مدينة قُم الإيرانية سنة 2016، هذه المدينة التي يوجد فيها المدارس الدينية الشيعية المعروفة "بالحوزة العلمية" إضافة إلى "مدارسها الفقهية المتعددة" بالرغم من سطوة سلطة ولاية الفقية، حيث اختصر دوغين لقاءاته بجهات راديكالية متشددة لا تمثل الثقل الفكري والتنويري لمدارس المدينة الفقهية وقال أثناء اجتماعه "إنني سعيد للغاية لأنني أتيت إلى المعقل الرئيس لمكافحة الحداثة، فإنني وقفت حياتي لمكافحتها، لأنني اعتبر أن الحداثة تعني الشيطان".
على ما يبدو، أن دوغين أراد العزف على لحن الغرب والحداثة مستغلا موقف حلفاء بلاده المسكونين بالخوف الدائم من الحداثة، كونها رؤية ترفعها أغلبية إيرانية تكافح لبناء دولة حديثة وترفض اختزال النظام لموقع ودور إيران في تحالفاته الجغرافية، ضاربا بمصالح الدولة التي تحاول تخطي الجغرافيا التي تعطل نُموها بسبب خياراته الجغرافية.
باختصار، لم يعد مستبعدا أن تكون موسكو أول المتضررين من مواجهة مقبلة في إيران بين متلازمتين "الثورة والجغرافيا" في مواجهة "الدولة والثروة". وهي مواجهة تتراكم ظروفها الداخلية منذ سنوات، وقد تشهد انفجارا في أي لحظة سياسية.
اقرأ للكاتب أيضا: موسكو طهران... جغرافيا العقائد والمصالح
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).