الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والإيراني حسن روحاني
الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والإيراني حسن روحاني

مصطفى فحص/

يُصر النظام الإيراني على التمرس خلف الجغرافيا، متمسكا بمعادلة أنها الثابت الوحيد الذي يحميه وسط متغيرات كبرى ومتحولات قاسية، ويراهن عليها كحيز جغرافي يبقيه بمأمن من تهديدات الخارج ويعطيه المبرر الشرعي داخليا.

ونجح في الإضفاء على جغرافيا إيران السياسية عقيدة توسعية تلبي طموحات المدى الإيراني المفتوح على فرض نفوذ دائم خارج الحدود الوطنية، ووجد ضالته مبكرا في شعار تصدير الثورة التي شكلت الأداة الأكثر جاذبية في إعادة إنتاج الهيمنة على الجغرافيا المحيطة بإيران، فالرغبة التاريخية الإيرانية في تحقيق الهيمنة الخارجية بدأت مع الصوفيين وهي مستمرة الآن مع الإسلاميين حيث يستخدمها نظام الملالي منذ عام 1979 من أجل تحقيق الارتباط التاريخي بين النظام الحاكم والجغرافيا العقائدية، التي شكلت الذريعة التوسعية لكل من حكم بلاد فارس أكان سلطانا أو شاها أو ولي فقيه.

فرضت هذه الضرورات على النظام الإيراني اللجوء الجغرافي إلى روسيا

​​لكن رهان إيران التاريخي على الجيوسياسية اصطدم تاريخيا بثوابت جغرافية ضخمة وشرسة حاصرت طموحات إيران وقيدتها وحولتها في محطات كثيرة إلى عبء على المجتمع الإيراني الذي اضطر إلى الموائمة ما بين حاجة نظامه إلى استغلال الجغرافيا من أجل بقائه، وقدرته على تحمل الأثمان التي تفرضها الضرورات الجيوسياسية وحمايتها.

فقد فرضت هذه الضرورات على النظام الإيراني اللجوء الجغرافي إلى روسيا، رابطا ما بين نظامه الثوري وموقعه الجغرافي، ومصالح روسيا السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في منطقتي الشرق الأوسط والخليج العربي، في إعادة إنتاج واضحة للسياسات القاجارية التي خضعت للهيمنة القيصرية الروسية وحولت إيران إلى أداة روسية في مواجهة نفوذ بريطانيا العظمى حينها في إيران وشبه القارة الهندية وآسيا الوسطى.

هذا الانشغال الإيراني بالربط بين متلازمة النظام، "الثورة الجغرافيا"، وروسيا، نجح في نقل العلاقة المعقدة بين البلدين التي شهدت 4 حروب، وحالات عنف داخلي وانتفاضات واحتجاجات شعبية ضد الهيمنة والوصاية الروسية على إيران إلى مستوى الجيوعقائدي، عبّر عنه مُنظِر الأورآسيوية الروسي المفكر القومي ألكسندر دوغين بقوله "إن التحالف بين إيران وروسيا لا غنى عنه من أجل إقامة أوراسيا قوية ومستقلة وآمنة ومستقرة، فبإمكان العلاقة الإيرانية الروسية أن تتطور إلى مستوى أهم تحالف موجود بل ينبغي عليها ذلك، لتتمكن إيران من الدفاع عن نفسها ضد القوى الإمبريالية في الغرب، وفي الوقت نفسه السماح لروسيا بالانضمام إلى المياه الدافئة التي كانت دائما الهدف الرئيسي لسياستها الخارجية".

في المقابل تسبب خيار النظام في ربط "الثورة والجغرافيا" بروسيا إلى امتعاض نخب إيرانية، تشكل عصب الدولة التي تختلف بخياراتها الخارجية عن خيارات النظام، المتهم من قبل هذه النخب الاجتماعية والثقافية والطبقة الوسطى المتمسكة بخيار "الدولة والثروة" المرتبط تلقائيا بالغرب والذي يرفض هيمنة الثورة على الدولة ويقف بوجه تعطيل استغلال الثروة في سبيل حماية الجغرافيا.

هذا الامتعاض تحول في هذه المرحلة إلى استياء شعبي عام لدى الإيرانيين، المسكونين أصلا بهواجس الهيمنة الروسية وضرائبها القاسية على مجتمعهم واقتصادهم. فالذاكرة الإيرانية ما زالت مسكونة بهواجس التدخلات الروسية التاريخية بشؤونهم الداخلية، حيث انحازت موسكو دائما للأنظمة الاستبدادية على حساب تطلعات الشعب الإيراني وحقوقه، عندما وقفت إلى جانب حاكم إيران القاجري الفاسد والمستبد مظفر الدين شاه بوجهة الثورة الدستورية سنة 1906 وساعدته في قمع مطالب الشعب الإيراني في وضع الدستور، وقامت قوتها العسكرية "القوزاق" سنة 1908 بقصف البرلمان وإلغاء العمل بالدستور، مما أدى إلى اندلاع أعمال عنف، حيث تمكن الثوار من إلحاق الهزيمة بالقوات الروسية والسيطرة على طهران، مما أجبر الحاكم القاجاري محمد علي شاه على الفرار إلى السفارة الروسية، ومن ثم تنازله عن العرش بمساعدة بريطانية.

وبلغت الهيمنة الروسية على السيادة الإيرانية ذروتها عندما عينت الحكومة الإيرانية خبيرا ماليا أميركيا يدعى موركان شوستر سنة 1911 إضافة إلى مدربين عسكريين من أجل تطوير مستوى الجندرمية الإيرانية، فوجهت بطرسبرغ إنذارا شديد اللهجة إلى حكومة طهران طالبت فيه بطرد شوستر والمدربيين الأميركيين، وعندما رفض البرلمان الإيراني مطالب الروس، قامت قوات روسية إيرانية مشتركة باحتلال البرلمان، وأبلغت الحكومة الإيرانية شوستر بالمغادرة، وتسببت أعمال العنف حينها بفوضى مسلحة في عدة مدن إيرانية وأدت إلى قيام المدفعية الروسية إلى قصف مرقد الإمام الرضا في مدينة مشهد.

تسبب خيار النظام في ربط "الثورة والجغرافيا" بروسيا إلى امتعاض نخب إيرانية

​​عود على بدء، إلى ألكسندر دوغين الذي زار مدينة قُم الإيرانية سنة 2016، هذه المدينة التي يوجد فيها المدارس الدينية الشيعية المعروفة "بالحوزة العلمية" إضافة إلى "مدارسها الفقهية المتعددة" بالرغم من سطوة سلطة ولاية الفقية، حيث اختصر دوغين لقاءاته بجهات راديكالية متشددة لا تمثل الثقل الفكري والتنويري لمدارس المدينة الفقهية وقال أثناء اجتماعه "إنني سعيد للغاية لأنني أتيت إلى المعقل الرئيس لمكافحة الحداثة، فإنني وقفت حياتي لمكافحتها، لأنني اعتبر أن الحداثة تعني الشيطان".

على ما يبدو، أن دوغين أراد العزف على لحن الغرب والحداثة مستغلا موقف حلفاء بلاده المسكونين بالخوف الدائم من الحداثة، كونها رؤية ترفعها أغلبية إيرانية تكافح لبناء دولة حديثة وترفض اختزال النظام لموقع ودور إيران في تحالفاته الجغرافية، ضاربا بمصالح الدولة التي تحاول تخطي الجغرافيا التي تعطل نُموها بسبب خياراته الجغرافية.

باختصار، لم يعد مستبعدا أن تكون موسكو أول المتضررين من مواجهة مقبلة في إيران بين متلازمتين "الثورة والجغرافيا" في مواجهة "الدولة والثروة". وهي مواجهة تتراكم ظروفها الداخلية منذ سنوات، وقد تشهد انفجارا في أي لحظة سياسية.

اقرأ للكاتب أيضا: موسكو طهران... جغرافيا العقائد والمصالح

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.