أراس عثمان، رسام كردي فقد ذراعيه بانفجار، يرسم بقدميه في منزله في إحدى ضواحي السليمانية
أراس عثمان، رسام كردي فقد ذراعيه بانفجار، يرسم بقدميه في منزله في إحدى ضواحي السليمانية

رستم محمود/

بشيء من التحرير وإعادة ترتيب الكلمات وتهجئتها، يُمكن وسم التصريح الذي صدر عن الأمين العام لوزارة البيشمركة الكُردي جبار ياور الأسبوع الماضي بأنه "إعلان نعوة بلاد كاملة". ياور الذي قال إن الضربات الجوية التركية الأخيرة على المناطق الجبلية من إقليم كردستان قد أدت لنزوح سكان 450 قرية كردية جبلية، وإن تلك الضربات قد محقت أملاك القرويين الكرد هؤلاء، حيث يُستصعب عودتهم إلى مناطق سكنهم تلك.

التصريح/النعوة مرّ عابرا على منصات الإعلام ووسائل التواصل ونشرات الأخبار، مثله مثل أي خبر آخر، كارتفاع أسعار البورصة أو عودة رئيس دولة ما لبلاده، أو أي شيء من تلك الأنباء التي ترصد صور وأشكال الحياة اليومية العادية والرتيبة.

شكل حرق القرى الاستعارة الأكثر استقرارا ووضوحا في الذاكرة الجمعية للكُرد

​​هذه القرى، ذاكرة وسكانا وجغرافيا، وثقافة وعمقا وإنتاجا، تشكل بلاد كاملة، مقارنة بأكثر من نصف دول العالم الحالية، بمساحتها التي تمتد على جبال شاسعة تربط دولا وحضارات. بلاد دُمرت خلال أسابيع قليلة، من خلال ضربات جوية لم تكلف الطرف الآخر أي ثمن، إلا قرارا عسكريا أرعنا وبعض آلاف الدولارات، صار معها ذلك العُمران الآدمي الذي حافظ على استقراره لعشرات القرون، مجرد أرض بور جرداء.

لم تلق تلك التراجيديا اهتمام أحد، من شخصيات ومنظمات وحكومات. لا أحد مع هؤلاء المُستضعفين الذي استغنوا عن كل أشياء الحياة ولاذوا وبقوا في تلك الجبال العصية منذ عشرات القرون، طالبين رمق الحياة فحسب، فلاحقتهم إبداعات الحداثة القومية وأمطرتهم وحيواناتهم وأشجارهم حِمام نارية من السماء، فحطمتهم، كما يفعل دب بسمكة عابرة في النهر.

البيان الوحيد الذي أصدرته وزارة الخارجية العراقية كان أشبه بما يفعله طالب كسول بواجباته المدرسية، شيء يبدو أنه كان لا بد منه، كوظيفة بيروقراطية، وإن ثقيلة الظل، لتلك المؤسسة، لا كجزء من واجب أخلاقي ووجداني وعسكري لدولة سيادية، مسؤولة عن حيوات مواطنيها.

فالضبط كما أن قرى الكُرد وبيئتهم السكانية هي الهدف/العدو المثالي في العقيدة العسكرية التركية، فإنها بالمقابل ليست جغرافية الدرجة الأولى بالنسبة لاستراتيجية الحكومة المركزية العراقية وعقيدة جيشها. تلك العقيدة التي تملك محاججة لا تقل قومية عن نظيرتها التركية، فحتى يكون الجيش العراقي مستعدا للدفاع عن قرى كُرد العراق، فعلى هؤلاء أن يتخلوا عن إرادتهم ومنجزهم السياسي وسيادتهم على نفسهم، أن يتركوا ما حرروه ببحر من الدماء والدموع ليحكمه الجيش العراقي، الذي لا يشكل الكُرد منه حتى نسبة واحد بالمئة، وحيث أن نسبتهم كانت أكثر من ذلك حتى في عصر ظُلامة صدام حسين.

فبعد صدور البيان بلحظات قليلة، استمر كل شيء بين العراق وتركيا بالوتيرة نفسها، تجارة وعلاقات دبلوماسية واستخباراتية، وكأن شيئا لم يحدث قط، لا متابعة ولا محاسبة، وطبعا لا تحقيقات أو تهديدات برد فعل ما.

الطرف التركي كان واثقا من نفسه لدرجة بالغة الخطورة. حيث استدعت وزارة الخارجية التركية القائم بأعمال السفارة العراقية، وأخبرته بأن تركيا ستواصل ضرباتها الجوية بزخم أكبر، وأن المسألة تتعلق بالدولة العراقية، التي لا تقوم بواجبها كدولة في محاربة "الإرهاب" على أراضيها. وكأن قصف تركيا لقرى المدنيين ورعاية العشرات من التنظيمات المتشددة على أراضيها وإرسال الأسلحة للجماعات الليبية المُتقاتلة واحتلال مناطق واسعة من سوريا، غير تحطيم الثقافة والبيئة السكانية الكُردية والعلوية والمسيحية في تركيا، واعتبار تركيا بلادا مطوبة للجماعة القومية التركية السُنية الحنفية من سكان الأناضول فحسب، دون غيرهم من سكان تلك البلاد، إنما هي من واجبات الدولة! وكأن عنف الحركة القومية الكُردية هو الـ "أولا"، وليس كل تلك السلوكيات الشمولية الرعناء للدولة التركية الـ "أولا".

♦♦♦ 

يتأمل الكُردي مثل تلك الأخبار ويتألم لوحده، فهذا ليس بحدث استثنائي جرى مؤخرا، بل تكاد سيرة تحطيم القرى الكُردية في عموم دول المنطقة، هي الاستعارة الأكثر مباشرة ووضحا لتفاعل الآخرين مع مسألة الشعب الكُردي منذ أوائل القرن العشرين وحتى الآن. من قرى مناطق باولو وديرسم وساصون، التي حُرقت مع الثورات القومية الكُردية الأولى، في وضمن تركيا الحديثة. ومن مثلها مارست السلطات العسكرية العراقية حملات الأنفال ضد القرى الكُردية، وفعل الحرس الثوري الإيراني بقرى الجبال الكُردية أوائل الثمانينيات، وأكملتها تركيا في حرق أربعة آلاف قرية كُردية جنوب شرق البلاد، وأكملت عصابات الفصائل السورية المسلحة ذلك في قرى جبال عفرين.

بعد صدور البيان بلحظات قليلة، استمر كل شيء بين العراق وتركيا بالوتيرة نفسها

​​فكلما كان كيان سياسي ما في المنطقة ينجح في محق انتفاضة كان يعود لحرق البيئة السكانية والروحية لتلك الانتفاضة؛ كان يبتغي نوعا من كسر العين والعقاب الجماعي، لما هو فعليا البيئة الخاصة للتمردات الكردية.

شكل حرق القرى الاستعارة الأكثر استقرارا ووضوحا في الذاكرة الجمعية للكُرد، بالضبط لأن ذلك البحر من القرى الكردية كان المكون الثقافي والروحي واللغوي الأكثر رسوخا وعمقا للذات والهوية والشخصية الكُردية. وبذا كانت الرحم الطبيعي الولود لانتفاضات الكُرد وتمرداتهم التي ما سكنت منذ قرن، رفضا لأيديولوجية وسياسة النُكران التي مورست بحق الكُرد في مختلف الدول منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.

♦♦♦

ثمة ذات ما، شخص أو مؤسسة أو عقيدة دولة، في كل واحدة من الكيانات السياسية التي حكمت وأنكرت وجود الكُرد في هذه المنطقة، قرأت حكاية "سُلطان الفيلة" بكل انتباه وتركيز. تلك الحكاية سردها الروائي الكُردي الشهير يشار كمال بكل أناقة، نقلا عن الحكمة والذاكرة الجمعية والمعاناة المعتقة لذويه الكُرد، والتي تقص حكاية معركة كبرى تجري بين مملكتي الفيلة والنمل، وحينما ترى هذه الأخيرة (أي النمل) بأن مقارعة الفيلة على سطح الأرض هي هزيمة كاملة، فتلجأ إلى مكامن سلطتها وقوتها، باطن الأرض، حيث تملك القوة والمعرفة والطاقة الكاملة لإدارة المعركة، وحيث لا تستطيع الفيلة أن تدخل إلى تلك التفاصيل. ومن باطن الأرض تنسج النمل هزيمة الفيلة، التي تسقط في الأغوار التي تحفرها النمل، ولا تستطيع الخروج.

كانت قرى الكُرد الجبلية عالمهم السُفلي الأكثر بهاء وثقة وطاقة للحفاظ على ذاتهم وهويتهم وخصوصيتهم. لكن تلك الذات في كيانات المنطقة، فهمت هضمت ذلك التفصيل، منذ قرابة القرن وحتى الآن، وحطمت عالم الكرد الحصين في قراهم، ليكون تحطيم وتطويع الكُرد أكثر يُسرا وأقل تكلفة.

اقرأ للكاتب أيضا: اللاجئون السوريون ضحايا غياب الدولة

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.