أثار المسلسل الأردني "جِنّ"، الذي أنتجته شركة نتفليكس الأميركية، عاصفة من ردود الفعل من جنود الأخلاق وحرّاس الفضيلة الأردنيين الذين طالبوا حكومتهم بحظره لأنه، حسب اعتقادهم، يقدم صورة مشوّهة وغير صحيحة عن المجتمع العربي الأردني الفاضل، ذي الغالبية المسلمة.
أحداث المسلسل تتمحور حول رحلة مدرسية قام بها طلاب ثانوية من عمّان إلى مدينة البتراء الجنوبية، واستحضر بعضهم، من حيث لا يدرون، الجِنّ، بنوعيه ـ الطيب والشرير ـ وراح فريقا الجِنّ يتسابقان للحلول في جسد الطلاب، الفريق الطيب يحاول إعادة الفريق الشرير إلى عالمه الماورائي غير المرئي، فيما الشرير يسعى للتحرر من قيده في الظلام، والذي امتد على مدى عصور.
ولأن الشخصيات هي من طلبة الثانوية، يتضمن المسلسل لقطات لطالب وطالبة يشبكان أيديهما، ويتبادلان القبلات، ويشاركان في حلقات طلابية فيها احتساء كحول وتدخين حشيشة الكيف. وفي المسلسل أيضا حوارات عن علاقات جنسية، أو محاولات لإقامتها، فيما يتضمن الحوار ألفاظا نابية على أنواعها.
أثارت هذه اللقطات والحوارات والإيحاءات حفيظة البعض في المجتمع الأردني، الذي يرى نفسه محافظا، عفيفا، لا كحول فيه ولا حشيشة، فقط صلاة، وصيام، وتعبّد، وغض أبصار.
لكن المسلسل واقعي إلى أقصى حد، ويعكس حقيقة المجتمع العربي المنفصم، الذي يهدي فيه الرجال عشيقاتهم الورود سرا، ويهدون شقيقاتهم الأشواك علنا، وكأن عشيقاتهم لستن شقيقات أحد. والمسلسل يعكس واقع مدارس الطبقتين المتوسطة والعليا، حيث يبدو التحرر من القيود أكثر منه في المجتمع، وحيث الحديث عن الحب والمصادقة والعلاقات قبل الزوجية معروف ومقبول. وحصر التحرر بالميسورين العرب ليس منصفا، فحتى في المجتمعات العربية المتزمتة، حب و"تنمير" (أي تبادل أرقام الهواتف) ونظرات، وتعارف، غالبه في السر، وبعضه مبني على قواعد دينية، مثل زواجي المتعة الشيعي والمسيار السني.
مجلة "المرأة الإماراتية" سألت بطلة المسلسل سلمى ملحس عن رأيها إن كان المسلسل سيغير من النظرة الغربية النمطية حول العرب وأساطيرهم حول الجِنّ، إذ ترتبط في مخيلة الغربيين عبارة "جِنّ" بمصباح علاء الدين والمارد الذي يخرج منه ليلبي طلبات سيده. تقول ملحس إنها تجيب أصدقاءها من غير العرب بسؤالهم: "هل سبق أن قابلتم عربا؟ نحن لسنا مختلفين، وعلى العالم أن يرى أننا مثل كل (الشعوب) الأخرى". ملحس على حق. لا يختلف العرب عن باقي الشعوب. فيهم المحافظون، والمتدينون، والعفيفون، وفيهم أيضا غير المحافظين وغير المتدينين وغير العفيفين، وفيهم مزيج من الاثنين، بعض من الدين وبعض من الدنيا، وحان الوقت أن يتوقف حرّاس الفضيلة، في الأردن وباقي الدول العربية، عن التظاهر وكأن العرب مجتمع متجانس يتطابق أفراده في المعتقدات، والأفكار، والأذواق، والتصرفات الاجتماعية.
"جِنّ" ليس المسلسل الأول الذي يعكس واقعا أصدق مما يحرص عليه صنّاع الصور النمطية المجتمع. مسلسل رائع آخر أنتجته نتفليكس هو الإسرائيلي "فوضى"، الذي تصور أحداثه عمليات الوحدة العسكرية الاستخباراتية الإسرائيلية المعروفة باسم "المستعربين"، وهي وحدة من إسرائيليين يتحدثون العربية بطلاقة، ويختلطون بالعرب في الأراضي الفلسطينية لتنفيذ عمليات اغتيال سرية.
بالكاد انتهى "فوضى" من عرض موسمه الثاني حتى تنطح أحد أشاوس "القضية" لمهاجمته في مقال في مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، وقال إن المسلسل لا يعكس صورة حقيقية عن الفلسطينيين، وأنه لا يصور الحواجز الإسرائيلية ومعاناة الفلسطينيين وانتشار الفقر بينهم. صديقنا الناقد يريد أن يصور مسلسل أحداثه عن الجاسوسية والاغتيالات ارتفاع معدلات الفقر بين الفلسطينيين.
مهارة "فوضى" أنه لا ينحاز إلى أي من الطرفين، الفلسطيني أو الإسرائيلي، بل يسعى إلى تصوير المأساة التي يفرضها العنف المتبادل على كل من الطرفين، لأن كليهما من البشر، يحبّون، يكرهون، يغارون، يتمردون على قياداتهم، وتتحول الأمور بينهم إلى ثارات شخصية، وإلى صداقات شخصية، وحتى حب عابر لطرفي الحرب. العبرة من "فوضى" أن العنف يقوّض الطرفين، وأنه يدمر حياة العائلات على الجهتين. إذن، البعد البشري هو أساس المسلسل، بدون رسائل سياسية معينة.
اختيار الجِنّ كمحور المسلسل غير مألوف بالنسبة للدراما الاجتماعية، ولكن لا بأس بالتنويع. ومن يعرف التاريخ يعرف أن للبتراء وأهلها الأنباط، الذين امتد عمرانهم ودولتهم إلى مدائن صالح شمال غرب السعودية، أساطير كثيرة تربطهم بالجِنّ، وأن من الأساطير ما يعتقد أن الجِنّ هم من "جابوا الصخر في الواد"، أي نقشوه، حسب الآية القرآنية، وأن منها ما يقول إن الجِنّ هم من بنوا هيكل سليمان، وحفروا آبار الماء التي كانت تروي "طريق حجّ زبيدة"، الذي يربط بابل العراقية بالمدينة الحجازية. وفي مدائن صالح السعودية، يرفض المتزمتون السعوديون مشاريع السياحة التي تعدها الرياض لهذه المناطق النبطية الرائعة تاريخيا، لاعتقادهم أن رسول المسلمين حذّر من سكن هذه المناطق الملعونة شعوبها إلهيا.
لا بأس في إغضاب حرّاس الفضيلة العرب، إن في البتراء الاردنية أو في مدائن صالح السعودية. "جِنّ" ينضم إلى المسلسلات الحديثة التي تصور الناس بأكثر صدق وواقعية ممكنة، وتحاول رصد مشاعرهم وتفاعلاتهم، من دون الالتفات إلى الصور النمطية المرسومة لمجتمعاتهم، فنحن بشر، ونحن أفراد، ويمكن لأشاوس "القضية" ولحرّاس الفضيلة الصراخ ما أمكنهم، لكن العالم ينفتح على بعضه البعض، ويتحاور، ويكتشف بعضه البعض، ولا يمكن لصراخهم أن يخفي الحقيقة خلف صور متخيلة.
اقرأ للكاتب أيضا: 'ألا ليت الاستعمار يعود يوما'
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).