فاتن حمامة وعمر الشريف في صورة تعود للعام 1966
فاتن حمامة وعمر الشريف في صورة تعود للعام 1966

د. ابتهال الخطيب/

في حلقتين مميزتين من موسم 2018 من برنامج "صاحبة السعادة" للفنانة الرائعة إسعاد يونس بعنوان "مسرح السعادة"، استعرضت يونس تاريخ المسرح المصري وأحيت ذكرياته الخلابة بأن استضافت نجوم المسرح الذين لعبوا دورا مهما في تشكيل ملامحه وكذلك بأن أعادت تقديم بعض المشاهد الغنائية المميزة من المسرحيات المهمة التي شكلت هوية الخشبة المصرية منذ ما قبل منتصف القرن الماضي وذلك على مسرح خاص أعدته في برنامجها ومن خلال فرقة شبابية مميزة أعادت تقديم أجمل المشاهد المسرحية بطعم جديد.

أثارت الحلقتين، بمرورهما على روائع المسرح المصري، كل ما في القلب من مشاعر، كل ما في الذاكرة من مشاهد، أثارت أفراحا وأحزانا وتأسي على ماض ما عاد، على وهج فني خبا أسفل رماد الظروف السياسية الخانقة التي جعلت الفن قيمة ثانوية خافتة أمام احتياجات ومتاعب ومخاوف الناس، حولته إلى رسالة تخديرية مسكنة للآلام بالضحك الفارغ والكوميديا السمجة.

أشتاق لكل الفنانين الذين رحلوا، أشتاقهم كأنني أعرفهم شخصيا

​​لقد هبطت الخشبة، لربما في بلداننا العربية كلها وأنا أشهد للحالتين الكويتية والمصرية على وجه التحديد وهما الحالتان اللتان كانتا الأعلى شأنا والأرفع قيمة، إلى ما هو أدنى من "مستوى النظر" لتتبدد الضحكات فارغة على مشاهد خالية، لا موقف محبوك ولا حوار مسبوك ولا قصة ذات بعد ثالث، كل القصص ذات بعدين سطحيين، كل الضحكات خاوية كأنها صدى آلام ومخاوف لا علامات استحسان ورضا وأنس وبهجة حقيقيين. إنه الحزن في أعمق صوره.

تقدمت بي السنوات لأخطو حثيثا في المنتصف الثاني من أربعينياتي، ولتصبح لي ذكريات أبكيها، أماكن أحن إليها، وأناس أفتقدهم ولن أراهم بعد اليوم. كبرت كثيرا حد التأسي على ما كان، حد استسلامي لخدعة "الماضي الجميل" التي لا تشكلها سوى النوستالجيا المخادعة التي تصور ما كان على أنه أفضل وأنقى وأكثر شاعرية. أكثر ما يصهر قلبي الآن هو غياب عظماء الفن الذين شكلوا طفولتي وشبابي الواحد تلو الآخر، في علامة على أنني أخطو سريعا باتجاه الطرف الآخر من الحياة، حيث الذكريات المتراكمة والحنين المستبد.

محمود الجندي، هذا الشاب الأبدي الضاحك توفي، عبدالحسين عبد الرضا، هذه الأسطورة المتفوقة على الحياة اختطفه الموت، شادية بصوتها، وفاتن حمامة برقتها، والمئات من هؤلاء الذي طبعوا بصماتهم على قلوبنا ولم يعرفوننا في يوم، كلهم رحلوا وأخلوا ساحة القلب، تحولوا من وجود مادي إلى ذكري هلامية، ليتحول الوجود حولي تدريجيا من حقيقي إلى هلامي، من أحداث إلى ذكريات، من أفراح إلى اشتياقات وأحزان على فراق.

إلا أنني وأنا أفكر في كل ذلك، انتبهت لدرجة معرفتي المسرحية التي كان لوالدي كل الفضل في صنعها وتشكيلها. فبخلاف أنه كان، في كل رحلة إلى مصر، يشتري لي المسرحيات العالمية المبسطة طفلة صغيرة، ثم روائع المسرح الجاد مثل مسرح توفيق الحكيم وسعدالله ونوس في مرحلة ما بعد الطفولة، وبخلاف أن مكتبته العظيمة المتاحة لي كانت مليئة بالكتب المسرحية العميقة (المختبئة خلف كتب القانون الصارمة) التي تتعدى النص الأدبي إلى تكنيك فن المسرح من حركة ومكياج وديكور وغيرها، بخلاف كل ذلك، أعتقد أن التأثير الأكبر لوالدي تحقق من خلال مشاهدته هو لروائع المسرح بشكل مستمر على التلفزيون، حتى أنه كان من النادر أن يمر أحدنا على التلفاز في مكتبه أو في صالة البيت، ولا تتبدى على شاشته مشاهد مسرحية، خصوصا من تلك التي بالأبيض والأسود، والتي حفظتها وإخوتي عن ظهر قلب.

ليتني ما زلت هناك، على الأريكة بجانب والدي، دنياي كلها على خشبة هذا المسرح

​كنت أصاحب والدي لساعات طويلة في مشاهدة مسرحيات الريحاني، حتى أنني وأنا بعد طفلة، وقعت في حب عادل خيري وحفظت جمل ماري منيب وعشقت صوت عباس فارس الخشن وتمكنت تماما من تقليد لدغة ميمي شكيب، أما مسرحيات فؤاد المهندس، فتلك كنت أستطيع ترديدها وتقليدها صوتا وصورة.

وبمرور الأيام تنوعت استطلاعات والدي المسرحية وبقيت أنا ملازمة وفية لمشاهداته، فعشقت مسرح محمد صبحي واستمتعت حد الاختناق بضحكاتي بمسرح محمد نجم، خصوصا القديم منه، وتقبلت مسرح سيد زيان بكل عيوبه، وأحببت قفشات وحيد سيف بكل عفويتها.

لم يكن والدي يهتم، ولا يزال غير مهتم كثيرا، بمسرح عادل إمام وسمير غانم، وإن كان يتفرج أحيانا من باب العلم بالشيء. تعلمت أن أتذوق كما والدي، وما كنت أعرف لم يعجبني ما يعجبه، إلا أن فلسفته باتت تتضح يوما بعد يوم، مع تقدمي في الحياة، ثم مع اتخاذي من علم المسرح تخصصا لدراستي ثم مادة لمهنتي.

بكيت كثيرا وأنا أشاهد حلقتي "صاحبة السعادة" وهي تحيي الماضي أمام عيني بعد أن اعتقدته أصبح رميم. أعادت الفرقة الشبابية المميزة تقديم أغنية "يا حلاوة الدنيا" للخلابة حورية حسن، مشاهد من مسرحية "ريا وسكينة" للعباقرة شادية، عبدالمنعم مدبولي، سهير البابلي وأحمد بدير، استعراض من "شارع محمد علي"، أغنية من "المتزوجون"، أغنية من "هالة حبيبتي" أغنية من "مدرسة المشاغبين" رائعة "رمضان جانا" من "العيال كبرت"، وأتت أغنية "رايح أجيب الديب من ديله" من مسرحية العبقريين فؤاد المهندس وشويكار "أنا فين وأنت فين" من حقبة الأبيض والأسود لتهزم قلبي تماما، ولأتذكر أطباق المكرونة بالباشاميل في يدي ويد والدي، وتجالسنا قريبين على الأريكة ونحن نشاهد المسرحية مرارا وتكرارا مصاحبة بتعليقات والدي وقصصه حول الفنانين وتاريخهم.

يذهب حبي للمسرح لحقبة أقدم مما قدم البرنامج، أرتبط بشكل أعمق بحقبة الأبيض والأسود التي كنت ولا أزال أراها بعيني والدي ومن منطلق احترامه الواضح للخشبة العظيمة، إلا أن البرنامج، على قلة ما قدم من القديم غير الملون، ذكرني بالكثير، ناكشا ذكريات طفولتي المصرية القحة التي قضيتها بين ساحتين مصريتين أساسيتين: خشبة المسرح وخشبة السيرك، وللأخير قصة تستحق مقال منفصل.

ألا ليت مسرح الستينيات يعود يوما لأخبره بما فعل القرن الواحد والعشرين؛ ليت طبق الباشاميل الذي كنت ألتهمه دون خوف من تداعياته الصحية لم ينفذ؛ ليتني ما زلت هناك، على الأريكة بجانب والدي، دنياي كلها على خشبة هذا المسرح الذي أناظره بشوق على شاشة التلفزيون، ألح وأزوم طلبا لرحلة إلى مصر لحضور مسرحية، فيعدني والدي وينفذ.

كانت الدنيا بسيطة، كانت رغباتي بسيطة، وكان والدي حاضرا دوما للتنفيذ، والأهم، كانت روحي خفيفة، بعد ما تكونت لدي ذكريات، بعد ما أثقلتني الدنيا بالحنين، بعد ما عرفت من الدموع سوى أفراحها.

ألا ليت مسرح الستينيات يعود يوما لأخبره بما فعل القرن الواحد والعشرين

​​أشتاق لكل الفنانين الذين رحلوا، أشتاقهم كأنني أعرفهم شخصيا، كأنني جالستهم في الصالة مع أبي على الأريكة، كأنني بادلتهم كل حواراتهم على خشبة المسرح، والليلة، بعد مشاهدة "مسرح السعادة" فاض الحنين مترجيا مني ومنهم أن نعود، لكن الأريكة اختفت، والأحبة الخالدين على شاشة التلفزيون رحلوا، وطفولتي تبخرت، ما بقي منها سوى عينا أبي اللتين لا أزال أرى فيهما هذه الطفلة ذات الفم المبقع بصلصة طماطم المكرونة الحمراء.

كل شيء اختفى ونبقى أنا وأبي أوفياء، نحب فنانينا ونفتقدهم ونستمر في مشاهدتهم، اليوم كل من أريكته المنفصلة، لنكرر جملهم وقفشاتهم حين اللقاء عرفانا بجميلهم الجليل.

اقرأ للكاتبة أيضا: 'الناس أجناس'

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.