تظاهرة في بلجيكا تدعو الاتحاد لدعو الصين لاحترام حقوق أقلية الأويغور
تظاهرة في بلجيكا تدعو الاتحاد لدعو الصين لاحترام حقوق أقلية الأويغور

حسن منيمنة/

كان بوسع حكومة الصين أن تزعم أنها تريد الرقي والتقدم والرخاء لمواطنيها من سكان مقاطعة شينجيانغ، وأن هؤلاء قد سيطرت على عقولهم عقائد مستوردة عرضة للاستغلال من قوى خارجية، بل مدعومة للتوّ من هذه القوى، لتفتيت البلاد، وأنه كان لا بد من الشروع بخطوات تصحيحية هادفة إلى تمكينهم من مواجهة هذا الغزو المستتر. ولكن الحكومة الصينية لا تنحو هذا المنحى، ولا تتحدث عن مصلحة المواطن في شينجيانغ، بل الموقف الرسمي هو أنها تتخذ الإجراءات لضمان أمنها الوطني وفق ما تراه ولا شأن لأية جهة خارجية بالإجراءات المتخذة.

طبعا لا صدقية للخطاب المهمل حول مصلحة المواطن لو ظهر نفاقا، غير أن إهماله يكشف عن انعدام الحاجة للتورية والتستر، فالموقف الصيني حول شينجيانغ، والمنسجم مع رفض الصين في مجلس الأمن أية إدانة للنظام القاتل في دمشق، هو أن الشؤون الداخلية من اختصاص الحكومات وأن أي رصد دولي لها هو تدخل وتطفل يسعى إلى فرض مرفوض لإرادة خارجية، أي غربية، أو لتوظيف النقد في مواقع أخرى، كما في الحرب التجارية المفتوحة بين الصين والولايات المتحدة. هو كلام حق يراد به باطل. الحق أن التوظيف حاصل بالفعل، والباطل هو السعي إلى تكريس مبدأ العصمة المطلقة للحكومات عمّا تنتهجه من سياسات داخلية.

تشهد تركستان الشرقية فعل اجتثاث لهوية يستهدف الأويغور

​​السجال بهذا الشأن ليس جديدا، والموقف الصيني يستمد الزخم من الصيغة التي أرست النظام العالمي القائم والعائدة في أصولها إلى معاهدة الصلح في وستفاليا عام 1648 بعد حرب الثلاثين عاما، إذ أقرّت مطلق السيادة للحكومات على الأراضي التي تحكمها. وقد كرّست عصبة الأمم هذه الصيغة بعد الحرب العالمية الأولى ومن بعدها منظمة الأمم المتحدة كأساس في السلوك الدولي. غير أن هذا المبدأ قد شهد، عمليا ونظريا، تحديات لاعتبارات حقوقية، وإن لم تجد السبيل إلى التأطير الفاعل، فشهد العقد الأخير من القرن الماضي، مع استئثار الولايات المتحدة بموقع القوة العظمى العالمية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، حديثا متذبذبا وأفعالا مرتبكة حول "الحق بالتدخل" و "الواجب بالتدخل"، دون أن يمنع لا هذا ولا ذاك المجازر وأفعال الإبادة في رواندا والبوسنة وغيرهما.

أما مواقف الحكومة الحالية للولايات المتحدة، فيعتريها الالتباس، إذ تستمر المؤسسات، ولا سيما منها التابعة لوزارة الخارجية برصد تجاوزات حقوق الإنسان في كافة الدول، ويستمر البيت الأبيض بالاستعانة بهذه البيانات لتوجيه النقد وفق الحاجة، مستهدفا إيران وفنزويلا والصين وغيرها، رغم أن الموقف المعلن للرئيس هو أنه يعمل على تصويب سياسات بلاده الخارجية عن منحاها السابق وإلى عدم فرض الرؤية الغربية والإقرار بأن لكل دولة الحق بإدارة شؤونها الداخلية كما تشاء.

كيف تدير الصين شؤون مقاطعة شينجيانغ؟ أهل المقاطعة هم الأويغور، والبلاد بنظرهم ليس "الحدود الجديدة" الصينية، بل هي تركستان الشرقية، والتي تختلف باللغة والدين والتاريخ والثقافة عن سائر الصين، بل والتي كانت إلى منتصف القرن الماضي خارج سلطة الصين.

أن تخضع ديارهم لنزوح اقتصادي داخلي بدّل من تركيبتها السكانية لصالح أكثرية الهان الصينية، أمر مفهوم انطلاقا من التفاوت الكبير بالكثافة السكانية بين شينجيانغ والشرق الصيني، غير أن سوء إدارته أدى إلى تجاذبات كانت مواجهتها بالقمع، ومنه انطلقت الأعمال المعادية للسلطات، سلمية وعنفية. وبعد أكثر من عقدين من المناوشات، تولى حاكمية المنطقة من صاغ للأزمة المتواصلة حلا نهائيا.

الحل النهائي الذي تسلكه الصين إزاء الأويغور هو الانتهاء من خصوصيتهم، أي القضاء على حضورهم كفئة غير مندمجة في الهوية الحضارية الصينية. هو مشروع استيعاب قسري لفئة مختلفة، أي، دون تنميق، مشروع تذويب مجتمع وإبادة ثقافة دون إراقة دماء.

ليست الهوية الإسلامية الغريبة الوحيدة المستهدفة في الصين

​​مئات الآلاف من الرجال والنساء والشباب ملزمين بالبقاء في مخيمات "إعادة تربية" لإثبات انضوائهم في البنية الثقافية الصينية، والتي تقبل شكلا إسلاميا محليا صينيا، يندرج في إطاره معظم "الخوي" أي المماثلين للهان لغة وثقافة مع إشهارهم لهوية إسلامية متراجعة، وترفض أي "دخيل" على الواقع الصيني، وعليه فإن على الأويغور ليس فقط التخلي عن الصيغة الدينية التي يرتؤونها، بل كذلك استبدال أسمائهم إذا كانت من أصول عربية بأخرى صينية، وحلق اللحى وأكل لحم الخنزير، والانتقال من الأذان الشرعي باللغة العربية إلى آخر وطني يضع الصين الأم في صلبه، وغيرها من أوجه الإجمال والتفصيل والتي تضمن أولوية الهوية الوطنية الصينية بالنسبة لهم وتنفي خصوصيتهم.

ثمة ضبابية حول هذه الإجراءات، حيث أنها شأن داخلي لا علاقة بها على ما يبدو لأحد من الخارج. يتم الاحتجاز في مخيمات إعادة التربية، فيما عائلات المحتجزين تأوي مراقبين توفدهم السلطات للتأكد من أن ما يجري في منازلهم لا يساهم في إشاعة التطرف والإرهاب. هل هنا ثمة حافز إضافي للإسراع بالتخرج من مخيمات إعادة التربية حين يقيم رجال غرباء ليلا نهارا مع الأسر المفتقدة لرجالها المحتجزين؟

ليست الهوية الإسلامية الغريبة الوحيدة المستهدفة في الصين. فالمسيحية كذلك مقبولة بأشكالها المدجنة ومرفوضة وملاحقة حين تتواصل مع الخارج أو تتماهى في معتقدها وولائها مع مرجعيات غير صينية. والـ "فالون دافا" الحركة الروحية التي تجمع المقومات الثقافية والدينية من المزيج الصيني القائم على الطاوية والكونفوشيوسية والبوذية، مع استفاضة في هذه الأخيرة، هي أيضا مستهدفة، بل تعرضت لملاحقة قمعية وصلت إلى حد الاستئصال.

مفهوم الصين للسيادة الوطنية قطعي ومطلق، ينسجم مع تصورات العديد من الحكومات القيادية. رغم أن الأويغور شعب مسلم متدين في معظمه، ذو قناعات وتوجهات دينية عقدية ومسلكية ضاربة في عمق تاريخه، فإن السعي إلى تذويبه، وإن دون إراقة دماء، من خلال تجريده من حقه في الحرية والكرامة والمعتقد والهوية، لم تستفز مشاعر "ولي أمر المسلمين" في طهران، فلازمت إيران الصمت إزاء الموضوع، بل نالت من ولي عهد "خادم الحرمين الشريفين" في السعودية التأييد الضمني والإقرار بحق الحكومة الصينية أن تواجه الإرهاب والتطرف. فهنا وهنالك يبدو أن القناعة بحق أولياء الأمر بفرض إرادتهم سابقة لأي اعتبار حقوقي أو ديني.

الحل النهائي الذي تسلكه الصين إزاء الأويغور هو الانتهاء من خصوصيتهم

​​الولايات المتحدة اليوم في مواجهة تجارية مع الصين، وفي حرب اقتصادية لا مفر منها معها على مدى العقود المقبلة. وإذا كان السبيل الوحيد، في عالم يتخلى أقطابه، من واشنطن إلى موسكو وبكين، جهارا عن القيم، هو توظيف هذه المواجهة لرفع الوعي لدى الوجدان الإنساني الثابت بهذهالقضية المعيبة، للصين والإنسانية جمعاء، فليكن.

تشهد تركستان الشرقية فعل اجتثاث لهوية يستهدف الأويغور. ولينظر إليها من شاء كيفما شاء: هي إضرار متواصل بالدين والنفس والعقل والعرض والمال، رغم صمت من يزعم ولاية الأمر والحرص على بيضة الإسلام، وهي تعديات مستمرة على الحق بالحياة والحرية والكرامة والملكية والهوية، رغم القصور والتقصير في من يعتنق خطاب القيم العالمية وحقوق الإنسان. وللمسألة في كلا الإطارين عواقب خطيرة في التأسيس لسوابق بطش جديدة من الحكومات القيادية، وفي التحضير لخطاب تعبوي قطعي ورافض للمنظومة الدولية، وإن غاب اعتبارها على المنشغلين بالحاجات الآنية.

اقرأ للكاتب أيضا: الولايات المتحدة في عيد ميلادها الـ 243: أين هي من مبادئها؟

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.