سودانيون يحتفلون بالاتفاق بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري
سودانيون يحتفلون بالاتفاق بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري

بابكر فيصل/

تمكنت قوى إعلان الحرية والتغيير، التحالف الممثل للكيانات التي تقود الثورة السودانية، الأسبوع الماضي من التوصل لاتفاق سياسي مع المجلس العسكري الذي تسلم السلطة في أعقاب سقوط عرش الجنرال عمر البشير في أبريل الماضي.

كانت المفاوضات بين الجانبين قد انطلقت منذ أكثر من ثلاثة أشهر، لمناقشة القضايا المتعلقة بهياكل السلطة الانتقالية وفترتها الزمنية بالإضافة لسلطات وصلاحيات تلك الهياكل، حيث نجح الطرفان حينها في الوصول لاتفاق حول غالبية القضايا مدار النقاش عدا موضوع واحد وهو كيفية تقاسم مقاعد المجلس السيادي ورئاسته.

ولكن العلاقة بين الطرفين توترت في أعقاب فض قوات المجلس العسكري الاعتصام الجماهيري أمام مقر قيادة الجيش بطريقة وحشية أدت إلى مقتل عشرات المتظاهرين في الثالث من يونيو، مما حدا بالتحالف الثوري لإعلان وقف التفاوض من جانب واحد، وهو الأمر الذي أدى لتصعيد المواجهة بين الجماهير والعسكر وزاد من مخاوف انزلاق البلاد نحو الفوضى والصراع.

يتوجب على الحكومة الانتقالية العمل سريعا على ترسيخ الحريات العامة

​​في تلك الأثناء قام رئيس وزراء أثيوبيا، آبي أحمد، بزيارة للخرطوم عرض فيها التوسط بين الطرفين لنزع فتيل الأزمة، وقوبلت مبادرته بالترحيب وشكلت مساعيه إلى جانب جهود الاتحاد الأفريقي الوساطة الرئيسية التي رمى المجتمع الدولي بثقله خلفها من أجل الوصول لحل يجنب السودان مخاطر الحرب الأهلية.

تم استئناف التفاوض غير المباشر بين الطرفين عبر الوساطة الأثيوبية/الأفريقية التي تقدمت بمسودة اتفاق شملت ما تم الاتفاق عليه سابقا، بالإضافة لمقترح لحل العقدة التي توقفت عندها المفاوضات في جولاتها السابقة والمتمثلة في رئاسة المجلس السيادي ونسب تمثيل المدنيين والعسكريين داخله.

وافقت قوى الحرية والتغيير على مقترح الوساطة بأن يتناوب الطرفان على رئاسة مجلس السيادة بصورة دورية وأن يضم المجلس أغلبية مدنية، ولكن المجلس العسكري رفض المقترح مما تطلب العودة مرة أخرى للتفاوض المباشر حتى يتم حل تلك العقدة وكي يتفادى الطرفان إعلان انهيار المفاوضات ووصول الوساطة لطريق مسدود وهو الأمر الذي كان سيؤدي لمفاقمة الأوضاع وزيادة احتمالات الصدام والمواجهة بينهما.

بعد دراسة مستفيضة لطلب الوساطة استئناف التفاوض المباشر، أبدى تحالف قوى الحرية والتغيير موافقته بشرط تهيئة الأوضاع عبر اتخاذ قرارات من قبل المجلس العسكري تعضد هذا الاتجاه من ضمنها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ووقف الحملات الإعلامية السالبة الموجهة ضد الثوار والتحالف الذي يمثلهم.

في خاتمة جلسات التفاوض المباشر التي استمرت ليومين متتاليين، نجح الطرفان في تجاوز عقدة رئاسة المجلس واتفقا على تناوب المنصب كما توصلا لاتفاق شامل يغطي هياكل وسلطات وصلاحيات السلطة المدنية الانتقالية (مجلسا السيادة والوزراء) بينما تم إرجاء مناقشة أمر المجلس التشريعي على أن يتم تكوينه في فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر.

قابل الشعب السوداني الاتفاق بارتياح كبير لم يخل من المخاوف والشكوك حول العقبات التي يمكن أن تواجه إنزاله لأرض التطبيق، خصوصا في ظل الاهتزاز الكبير الذي أصاب ثقته في المجلس العسكري في أعقاب الفض الوحشي للاعتصام الجماهيري السلمي أمام مبنى قيادة الجيش.

من المؤكد أن تطبيق الاتفاق يتطلب عملا دؤوبا لتوطيد الثقة بين العسكريين والمدنيين من أجل إنجاح إدارة الفترة الانتقالية التي سيقع على حكومتها عبئا كبيرا يتمثل في ضرورة إيجاد حلول للمشاكل الكثيرة الموروثة من النظام البائد والمتمثلة في التدهور الاقتصادي المريع والفساد المستشري والحرب الأهلية فضلا عن ضرورة السعي لتمهيد الطريق لإجراء الانتخابات الحرة والنزيهة في نهاية فترة سنوات الانتقال الثلاث التي نص عليها الاتفاق.

لا بد أن تضع الحكومة في مقدمة أولوياتها ضرورة محاسبة المفسدين والمجرمين من رموز العهد البائد

​​ينتظر الحكومة القادمة، التي ستشكل من كفاءات وطنية دون محاصصة حزبية، تحدي مواجهة المشكلة الاقتصادية التي انعكست في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخم إضافة لتدهور قيمة العملة الوطنية والدين الخارجي الذي بلغ 53 مليار دولار، مع ارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع والخدمات، وهو الأمر الذي انطلقت بسببه شرارة الثورة الأولى في ديسمبر الماضي عندما تضاعف سعر رغيف الخبز.

كذلك خلَّف النظام البائد موروثا ثقيلا من الفساد الهيكلي الذي عم جهاز الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث، حيث أهدرت مداخيل البترول التي فاقت الـ 50 مليار دولار وحطمت المعايير المحاسبية التي تضبط الصرف الحكومي، فضلا عن فساد المسؤولين ومنسوبي النظام.

أما الحرب الأهلية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق فقد أزهقت فيها آلاف الأرواح وأدت لنزوح ملايين المواطنين داخليا ولجوء آخرين لدول الجوار، بالإضافة لتحطيم البنيات الأساسية وحرق القرى وتضييع سبل كسب العيش، كما شكلت عبئا مستمرا على ميزانية الدولة التي ظلت تخصص أكثر من 70 بالمئة من مواردها المالية للصرف على المؤسسات الأمنية والعسكرية.

من ناحية أخرى، ستعمل حكومة الثورة على تفكيك دولة "التمكين" التي تم تثبيتها طوال ثلاثين عاما، حيث سيطر كادر الحركة الإسلامية على النقابات المهنية وأجهزة الإعلام ودواوين الخدمة المدنية، وتم استبعاد الكفاءات الوطنية غير الموالية للنظام البائد، وهذه الخطوة تمثل أهمية قصوى حتى لا تتمكن القوى المضادة من إجهاض الثورة العظيمة التي عقد السودانيون عليها آمالا عراضا في الانتقال لمجتمع الحرية والعدالة.

لا بد أن تضع الحكومة في مقدمة أولوياتها ضرورة محاسبة المفسدين والمجرمين من رموز العهد البائد وأعوانهم الذين نهبوا ثروات الشعب وأزهقوا الأرواح، وذلك عبر تكوين مفوضية لمكافحة الفساد وفتح الباب أمام المحاكمات القضائية العادلة، حتى يتم استرداد أموال الشعب والقصاص من مرتكبي الجرائم التي لن تسقط بالتقادم.

تطبيق الاتفاق يتطلب عملا دؤوبا لتوطيد الثقة بين العسكريين والمدنيين

​​أيضا يتوجب على الحكومة الانتقالية العمل سريعا على ترسيخ الحريات العامة عبر إلغاء القوانين المقيدة للحريات مثل قانون جهاز الأمن الوطني وقانون النظام العام، إضافة لفتح نوافذ الصحافة والإعلام المقروء والمسموع أمام الجماهير والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والتجمعات الشبابية وهو الأمر الذي من شأنه أن يضع اللبنة الأساسية للتحول الديمقراطي المنشود.

هذه المهام الكبيرة التي تنتظر الحكومة الانتقالية لن يتم إنجازها بسهولة ويسر خصوصا مع تواجد دولة التمكين وما خلفته من تركات ثقيلة في جميع هذه النواحي، ولكن العزم والإصرار الذي أظهرته الجماهير السودانية خلال ثورتها المباركة التي استمرت طوال سبع أشهر يُبشر بأنها ستكون العين الحارسة على المكتسبات التي تحققت حتى الآن وستكون النصير الأكبر للحكومة الانتقالية حتى تمضي قدما في سبيل تحقيق شعارات الثورة والتأسيس للديمقراطية المستدامة.

اقرأ للكاتب أيضا: حول تطبيق الحدود الشرعية الإسلامية

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.