في 27 حزيران/يونيو، أي بعد مرور أربع سنوات ويوم واحد على هجوم سوسة، شهدت تونس هجومين انتحاريين مزدوجين استهدفا الأجهزة الأمنية في موقعين مختلفين من وسط العاصمة. ولكن ما هي إلا ساعات حتى عادت الحياة إلى مجاريها في المدينة. وسرعان ما سلطت الحكومة الضوء على أن السياحة لم تتأثر ـ وهذه نتيجة مختلفة تماما عمّا حدث بعد هجوم سوسة عام 2015، حيث ألغت أعداد كبيرة من السياح زياراتها إلى البلاد وصرّح الرئيس الباجي قائد السبسي أن "الدولة ستنهار إذا ما وقع هجوم مماثل آخر".
وفي الواقع، ازدادت هذه الجمهورية الواقعة في شمال أفريقيا نُضجا في التعامل مع التهديدات الأمنية المرتبطة بالجهاد، فالمسؤولون ما عادوا يرددون الهواجس الوجودية، سواء أكان ذلك مبررا أم هادفا لإشاعة الخوف. ومقارنة بعام 2015، أصبح كلٌّ من الدولة والشعب أكثر استعدادا للتعامل مع تبعات الهجمات الأخيرة. ولكن تضاؤل نسبة الشفافية فيما يتعلق باعتقالات الإرهابيين والروابط الظاهرة بالتعبات الجهادية السابقة يجب أن تثير القلق بشأن انتقال تونس على نطاق أوسع من الميول الاستبدادية إلى الديمقراطية وسيادة القانون.
روابط إلى شبكات الماضي
في صباح السابع والعشرين من حزيران/يونيو، قام انتحاري بتفجير نفسه بالقرب من مخفر للشرطة في وسط العاصمة تونس، متسببا بقتل شرطي وجرح آخر وإصابة ثلاثة مدنيين. ومرتكب الجريمة، الذي لم يُكشف اسمه، هو من مواليد عام 1988، وينحدر أصلا من باب الجديد في العاصمة وكان يعمل سابقا في الصناعات اليدوية في حي المدينة. وبعد الهجوم، تم اعتقال أحد المتواطئين كما داهمت وحدات الأمن منزل مرتكب الجريمة حيث عثرت على مواد تستخدم في صنع المتفجرات.
وبعد مرور عشر دقائق على الانفجار الأول، دوّى انفجار آخر بالقرب من الباب الخلفي لإدارة الشرطة العدلية بمنطقة القرجاني وأسفر عن إصابة أربعة من عناصرها. وحاول المهاجم، الذي وصل على دراجة هوائية، اقتحام مقر وحدة مكافحة الإرهاب في اللحظة التي فُتح فيها الباب وخرجت آلية شرطة، مما دفعه إلى التفجير. وبينما ألمح مصدر أمني إلى أن الفاعل تلقى مساعدة للوصول إلى المكان، أفاد الناطق باسم الوحدة سفيان السليطي لـ "وكالة فرانس برس" عن اكتشاف هوية المهاجم، إلا أن هذه المعلومات لم يتم الكشف عنها علنا.
وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، تبنّى تنظيم "الدولة الإسلامية" المسؤولية عن التفجيرين، وترسخت مصداقية هذا الأمر حين أشار السليطي في اليوم التالي إلى ثبوت الرابط بين الهجومين. وفي غضون ذلك، أوقفت القوات الأمنية 25 شخصا لاشتباهها بانتمائهم إلى تنظيم إرهابي أو التهليل للعمليات الإرهابية أو التورط في أعمال محظورة.
وفي إطار التحقيقات الجارية، داهمت الشرطة جامع الغفران في حي الانطلاقة وصادرت كمية كبيرة من المتفجرات. كما لاحقت العقل المدبر للهجومين وأردته قتيلا، وهو المدعو أيمن السميري البالغ من العمر 23 عاما وفقا لوزارة الداخلية. وقد رصدته القوى الأمنية في البداية في محطة قطار حي الانطلاقة، وعند مواجهته أطلقت عليه النار فقام بتفجير حزامه الناسف، ولكن لحسن الحظ لم يسقط أي ضحايا غيره.
والجدير بالذكر أن حي الانطلاقة هو مسقط رأس عنصر تنظيم "الدولة الإسلامية" المدعو شمس الدين السندي الذي خطط لتفجير باردو وسوسة عام 2015. وكان السندي يقيم في ليبيا في ذلك الوقت، ولكن مكانه الحالي غير معروف. وهذا الحي هو أيضا أحد الأحياء التي نشط فيها التنظيم الجهادي "أنصار الشريعة في تونس" بعد الثورة وقبل إدراجه على قائمة الإرهاب في عام 2013، علما بأن هذا التنظيم كان يسيطر على جامع الغفران خلال تلك السنوات، من جملة سيطرته على معاقل محلية أخرى.
ومن خلال مختلف الفعاليات والأنشطة، وبعضها موثق على وسائل التواصل الاجتماعي، عمل "أنصار الشريعة في تونس" على نشر عقيدته بين غالبية سكان المنطقة ليرسخ بذلك أفكاره الراديكالية في المجتمع. وحتى أنه اتبع النهج نفسه في مناطق أخرى من تونس ككل.
وقد تعاطف كثير من المواطنين مع القضية الجهادية آنذاك لأن التنظيم بدا في بادئ الأمر أنه يقتصر على الدعوى والحوكمة. ففي حي الانطلاقة مثلا، وزّع التنظيم المؤلفات في الأسواق والمقاهي، وكلّف رجال الدين المتعاطفين معه بإلقاء المحاضرات الدينية، ونظّم حملات لتنظيف الأحياء السكنية، وقدّم المساعدات الغذائية إلى الأسر المحتاجة، وأقام دورات لحفظ القرآن، كل ذلك تحت شعار "أبناؤك في خدمتك".
ومع أنه يصعب معرفة مدى تأثر الأشخاص المعنيين بهذه الأعمال، ثمة أمر واضح وهو أن الكثير من عناصر التنظيم السابقين انخرطوا في حملات للمقاتلين الأجانب في الخارج وفي أعمال تمردية في الداخل. وتفيد التقارير الإعلامية المحلية أن بعض هؤلاء المقاتلين عادوا إلى ديارهم ويعيشون بحرية خارج السجن في حي الانطلاقة ومناطق أخرى من تونس.
المزيد من الاعتقالات، ثم المزيد من السرية؟
منذ مطلع عام 2014 حتى اليوم، نفّذت قوات الأمن 1411 عملية توقيف لأسباب جهادية، وفقا لبيانات صحفية صادرة عن وزارة الداخلية ومثبتة من خلال مقارنتها بالتقارير الإعلامية المحلية. ومن الصعب معرفة عدد المعتقلين بالتحديد لأن الموقوفين يتضمنون مجرمين سابقين. ومع ذلك، كان هناك منحى تصاعدي في الاعتقالات السنوية المتعلقة بالجهادية: 32 عام 2014، 163 عام 2015، 262 عام 2016، 404 عام 2017، و521 عام 2018.
وهذا الاتجاه يجعل البيانات التي جُمعت منذ أواخر عام 2018 أكثر إرباكا. فوتيرة الإعلان عن الاعتقالات تراجعت سريعا منذ شهر نوفمبر بحيث لم تسجَّل سوى 29 حالة اعتقال في عام 2019. وبهذا المعدل، قد يكون المجموع السنوي أقل من ستين، أي أدنى بكثير من المعدل الملحوظ في السنوات الأربع الماضية.
وقد يبدو هذا خبرا سارا في البداية ـ كونه يعني أن قوات حفظ القانون في تونس أصبحت أكثر قدرة على التمييز واستخدام المعلومات الاستخباراتية عوضا عن الاكتفاء بتوقيف أي شخص له أي علاقة ولو بعيدة بحادثة معينة. ولكن من الممكن أيضا أن وزارة الداخلية لم تعد تفصح عن التوقيفات بشفافية مطلقة، فنظرا إلى المنحى المسجل في السنوات القليلة الماضية، لا يبدو منطقيا انخفاض الأعداد بهذا الشكل الجذري والسريع. ومن المعقول أن الأجهزة الأمنية تنفّذ فعلا هذا العدد الضئيل من الاعتقالات، لكن هذا التراجع المفاجئ يستحق بعض الشكوك.
ومن المثير للاهتمام، أن تَراجع البيانات بدأ بعد صدور مقالة المرصد السياسي في أكتوبر 2018 لكاتب هذا المقال بشأن هجوم إرهابي نفّذته امرأة في العاصمة التونسية بوحي من تنظيم "الدولة الإسلامية". واستندت تلك المقالة جزئيا إلى المعلومات الواردة في البيانات الصحفية لوزارة الداخلية، ولذلك فإن بدء البيانات المماثلة بالتلاشي مباشرة في أعقاب المقالة قد تبدو محض صدفة، ولكن الأمر ملفت بأي حال.
وإذا تبيّن أن بيانات الاعتقال الصادرة عن الحكومة غير مكتملة أو شائبة بالفعل، فسيواجه الباحثون المحليون والأجانب صعوبة أكبر في تقدير نطاق التوجهات الجهادية في تونس ومسارها، كما أن ذلك ينذر بالعودة إلى ممارسات أكثر استبدادية اتبعها النظام الحاكم ما قبل عام 2011.
توصيات في مجال السياسة العامة
إن المشهد الأمني في تونس اليوم أكثر تطورا بشكل ملحوظ عما كان عليه قبل أربع سنوات. ولا بد من الإشادة بالتحسينات التي قامت بها الحكومة بمساعدة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والجزائر، في حين أن مرونة السكان تُظهر أن التأثير الذي ينشده الإرهاب المحلي قد فقد الكثير من قوته بمرور الوقت.
ولكن بغض النظر عن هذا التقدم، لن يتوقف الجهاديون ـ العائدون منهم من الخارج، والخلايا المحلية، والسجناء الحاليون ـ عن محاولة إضعاف الدولة. ونظرا للسياق الهش الراهن للانتخابات المقبلة والقلق من حالة السبسي الصحية، يجب على واشنطن أن تواصل دعم المساعي التي تبذلها الحكومة لجعل أمنها وقضائها ومنظومة سجونها أكثر تماشيا مع سيادة القانون في الإطار الديمقراطي. وينبغي أيضا على المسؤولين الأميركيين أن يوضحوا لتونس أن الشفافية في كيفية تعامل أجهزتها الأمنية مع الجهادية توفر على المدى البعيد حسنات أكثر من توفيرها السيئات.
وفي النهاية، عند التعمق في فهم الشبكات والمناطق الجهادية السابقة، يمكن استنباط الدلائل حول الأماكن التي قد تظهر فيها الأعمال الإرهابية في المستقبل، لأن هذا النوع من التعبئة لا يأتي من العدم.
هارون ي. زيلين هو زميل "ريتشارد بورو" في معهد واشنطن ومؤلف الكتاب القادم "أبناؤكم في خدمتكم: المبشرون التونسيون في الجهاد" (مطبعة جامعة كولومبيا).
المصدر: منتدى فكرة
ـــــــــــــــــــــالآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).