ناشطة ضد محارق النفايات ترفع لافتة تقول: ما حارق نفسنا غير صفقاتكم"
ناشطة ضد محارق النفايات ترفع لافتة تقول: ما حارق نفسنا غير صفقاتكم"

حازم الأمين/

لقد وصل الفأس إلى الرأس. حزمة العقوبات الأميركية التي طالت نائبين في البرلمان اللبناني، ومسؤول ثالث في حزب الله (هو جزء من المشهد السياسي اليومي في لبنان)، ليست جرس إنذار للبنان، بل هي الخطوة التي تعقب جرس الإنذار. هي المباشرة العملية لقرار أميركي مفاده أن لبنان، وليس حزب الله لوحده، هو جزء من منظومة النفوذ الإيراني، وأنه لن ينجو من الاستهداف.

الإدارة الأميركية الحالية قليلة الحساسية حيال الحسابات اللبنانية. التمييز الذي يقيمه الأوروبيون بين الدولة اللبنانية وبين حزب الله، وأيضا بين حزب الله وبين جناحه العسكري، ليس جزءا من حسابات هذه الإدارة. الحرص على لبنان بصفته بلدا لما تبقى من أقليات، وبصفته مصفاة للاجئين السوريين والفلسطينيين، ليس أولوية الإدارة الأميركية الحالية. هذه ليست حال لبنان فقط. الأردن مثلا يشعر بأنه أقل أهمية في حسابات الإدارة، وكذلك فلسطين، وسوريا النظام والمعارضة. هذا واقع يُملي ضرورة التعامل معه. لكن لبنان يدفن رأسه في الرمال، وها هو الفأس قد وصل إلى الرأس.

لبنان باسيل والحريري هو شركة صغيرة لا تقوى على فرض مصلحتها على الحزب الكبير

​​عمان مثلا هي أكثر المتضررين مما بات يعرف بـ "صفقة القرن"، وتشعر بتهديد وجودي من جرائها. والخطاب الرسمي الأردني حيال الصفقة لا يقل رفضا لها عن خطاب حماس، لكن في مقابل ذلك، لا تدفن عمان رأسها في الرمال، وتعرف أن ثمة فارقا بين السياسة وبين الخطاب. تعرف حجمها، وتتصرف بموجبه، وهي بهذا المعنى أكثر قدرة على مقاومة "الصفقة" من رافضيها المنخرطين في محور "الهلال الإيراني".

لبنان لا يعرف حجمه. لبنان بلا حجم أصلا، إذا ما ارتبط الأمر بالمشهد الإقليمي. لا قدرة للبنان على فك ارتباطه بالمنظومة الاقتصادية لحزب الله، تلك المستهدفة بالعقوبات. القرار ليس بيده، ثم أن الحزب صار في صلب الماكينة الداخلية اللبنانية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. حزب الله هو الأقوى والأكثر نفوذا في معظم مؤسسات الحكم. في الحكومة وفي البرلمان وفي رئاسة الجمهورية، وكيف لبلد هذه حاله أن يُقنع إدارة أميركية "هذه حالها" أيضا، بضرورة التمييز بين الحزب وبين البلد وأهله ومؤسساته.

لبنان لا يملك أيضا خطاب التمييز هذا. فمجرد السعي إليه يعتبر خيانة وتنصلا من تبعات "المواجهة". المهمة صارت صعبة. لا بل مستحيلة. العقوبات التي باشرتها الإدارة وصلت إلى ضفاف الموازنة، فالنواب المستهدفون يتقاضون رواتب من الدولة اللبنانية، والأخيرة حملت موازنتها وتوجهت بها إلى مانحين أوروبيين، وعلى هؤلاء المانحين أن يتعاملوا مع موازنة مستهدفة بعقوبات أميركية. هذه فاتحة إرباكات ستمتد لتشمل النظام المصرفي والتعاملات المالية العابرة للحدود.

لبنان بلا حجم. "لبنان حزب الله" أكبر من لبنان الواقعي

​​الوضع الاقتصادي اللبناني محاصر اليوم بحقيقتين، الأولى هي تلك الموازنة غير المقنعة التي توجهت بها الحكومة إلى المانحين في مؤتمر "سيدر"، والتي أعقبتها بحملة على اللاجئين السوريين، بهدف الضغط على المانحين الأوروبيين والتلويح لهم بأن انهيار الاقتصاد سيفضي إلى إرسال نحو مليون لاجئ من لبنان إلى أوروبا، والثانية هي العقوبات الأميركية، وهذه لا يملك لبنان لها حلا، ولن تنفع معها مراوغة كتلك التي يراوغ بها الأوروبيين. 

العقوبات التي باشرتها الإدارة الأميركية هي انعطافة كبيرة في العلاقة مع لبنان. والإدارة بصدد مزيد منها، وليس لدى لبنان ما يقوله سوى بيانات إدانة لا يمكن تحويلها إلى خطوات للتعامل مع هذا الواقع الجديد.

العراق تمكن مثلا من التعامل مع احتمال أن تشمل العقوبات حلفاء طهران العراقيين، وهؤلاء هم جزء كبير من الدولة ومن مؤسسات الحكم في بغداد. طهران سمحت بفتح قنوات عراقية موازية مع واشنطن، وللأخيرة حصة في حسابات الدولة في العراق. 

لا قدرة للبنان على فك ارتباطه بالمنظومة الاقتصادية لحزب الله

​​لبنان بلا حجم. "لبنان حزب الله" أكبر من لبنان الواقعي. ففيه تتكثف المنظومة الأمنية الإيرانية وتصبح عصية على السياسة. ولبنان جبران باسيل وسعد الحريري هو شركة صغيرة لا تقوى على فرض مصلحتها على الحزب الكبير.

وبين "لبنان حزب الله" ولبنان "باسيل ـ الحريري"، تلوح كارثة مهددة للبنانَيْن، ذاك أن الاقتصاد هذه المرة ليس مُهَددا بالدولة الفاشلة، وبطبقة سياسية فاسدة، إنما أيضا بحصار تفرضه أكبر قوة اقتصادية في العالم، وهي على ما يبدو لن تميز فيه بين لبنان وحزبه و"مقاومته"، ذاك أن الطلقة الأولى أصابت المجلس النيابي، وللحزب وزراء في الحكومة ولا أحد يضمن نجاتهم من حزمة العقوبات المقبلة.

لبنان لا يجرؤ على بناء خطة يتعامل عبرها مع هذه الاحتمالات الداهمة. ليس أمامه سوى أن يواصل دفن رأسه في التراب.

اقرأ للكاتب أيضا: باسيل إذ ينافس النظام السوري على قتلاه

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.