لاجئان سوريان يعزفان في أحد شوارع اسطنبول
لاجئان سوريان يعزفان في أحد شوارع اسطنبول

عمران سلمان/

ثمة ما يشي بأن الشعبوية في العالم في طريقها للازدهار، وأن قضية اللجوء واللاجئين والمهاجرين سوف تهيمن على سياسات الدول في القادم من الأيام، فيما الحلول المطروحة تكاد تخلو من أية مقاربة حقيقية أو ناجعة للمشكلة.

إشارات متزايدة

خلال الأسابيع القليلة الماضية فقط كانت ثمة إشارات عديدة إلى أن المزيد من الدول تتجه، تحت ضغط قضية اللاجئين، إلى سياسة حمائية على الصعيد الوطني، هي أقرب إلى نظريات الفصل والعزل والتسييج.

من هذه الإشارات حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لصحيفة فايننشال تايمز والذي هاجم فيه الليبرالية، قائلا إنه عفا عليها الزمن، واعتبر قبول اللاجئين في ألمانيا خطأ جسيما.

ثمة مسؤولية سياسية وأخلاقية جماعية عن تفجر قضية الهجرة

​​ومن الإشارات أيضا تفجر الجدل في لبنان بشأن اللاجئين السوريين، وغير اللبنانيين عموما، والحديث المتصاعد عن "لبنان أولا". ولا يبعد عن ذلك الحملة في تركيا ضد اللاجئين السوريين والتي اتخذت أشكالا عنيفة أحيانا ومن المرجح أن تتصاعد على وقع الأزمة الاقتصادية الداخلية، والمناورات التي يقوم بها السياسيون هناك. هذا مع انسداد أية إمكانية منظورة لإعادة اللاجئين إلى بلدهم سوريا.

يضاف إلى كل ذلك ما كشف عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب من جدول حملته الانتخابية والتي سوف تكون الهجرة والمهاجرين من بين أبرز القضايا الرئيسية فيها.

الهجرة عبر التاريخ

ثمة تدفق كبير للسكان من أجزاء من الأرض إلى أجزاء أخرى وهذه حقيقة، سواء بفعل الحروب والنزاعات أو بفعل الحاجة الاقتصادية والهرب من الجوع والفقر والبطالة. فالجنوب اليوم طارد للسكان، فيما الشمال والغرب يكان يكون الوجهة الطبيعية له.

ولكن، ألم يكن هذا هو الحال عبر التاريخ رغم تغير الأمكنة والأزمنة والسياقات؟ فالناس يتكاثرون، فيما الغذاء والماء والقدرة على الاستفادة من الموارد محدودة في العديد من بقاع الأرض، ولذلك فهم ينزحون إلى أقرب البقاع التي يعتقدون بأنها توفر لهم ما يحتاجونه. والعالم الذي نعرفه اليوم ليس سوى نتاج لموجات من الهجرات المستمرة والمختلفة بين أجناس متعددة من البشر عبر حقب تاريخية مختلفة.

بيد أن الجديد في هذا العصر هو أن الأرض لم تعد مشاعا للراغبين في الانتقال إليها، فثمة دول وحدود وشعوب تقطنها، وبالتالي ثمة قوانين وإجراءات تنظم ذلك كله.

قوانين قديمة

حتى الآن توجد لدى العديد من الدول قوانين تسمح باستيعاب المهاجرين واللاجئين وفق ضوابط وأنظمة وبرامج لتأهيلهم في مجتمعاتهم الجديدة.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن هذه القوانين لم تعد قادرة على الاستجابة للحاجات المختلفة للدول أو التعاطي مع الموجات الكبيرة من اللاجئين الذين يتدفقون من كل أنحاء الأرض وبصورة باتت تخلق إشكالات عديدة في هذه المجتمعات.

والسؤال الذي كان دائما ولا يزول مطروحا هو: كيف يمكن حل مشكلة اللجوء واللاجئين، بطريقة تسمح باستقبال الأكثر حاجة منهم والذين تنطبق عليهم الشروط والقوانين، وفي الوقت نفسه أخذ المخاوف الأمنية والاقتصادية والثقافية للدول المضيفة بعين الاعتبار، وبصورة لا تدفع هذه الدول للتخلي عن قيمها ومبادئها الأخلاقية؟

إن أفضل وسيلة لمواجهة قضية اللجوء واللاجئين، هو حلها من المنبع

​​للأسف فإن الكثير من النقاشات التي تدور في الغرب بخصوص هذه المشكلة لا تغادر مطارحها التقليدية، وسرعان ما تقع أسيرة للمنطق الشعبوي والسهل الذي يركز على سياسة إغلاق الأبواب وإقفال الحدود.

مع أنه لم يثبت عبر التاريخ أن الانعزال وبناء الجدران ومنع القادمين الجديد بالقوة قد أثمر عن حلول طويلة الأمد. كانت مثل هذه الإجراءات في الماضي تصلح لوقف الغزاة والطامعين مؤقتا، لكنها لم تستطع أن تصد إلى ما لا نهاية موجات الهجرة المتتالية.

العلاج من المنبع

الحقيقة التي يهرب منها الكثير من ساسة الدول هي أن ثمة مسؤولية سياسية وأخلاقية جماعية عن تفجر قضية الهجرة.

وفي حين أن دول الجنوب مسؤولة دون شك عن العجز في انتهاج خطط تنموية شاملة، واشتغال ساستها بالسلطة والفساد وإهدار الثروات، فإن دول الشمال مسؤولة أيضا عن استدامة هذه الحالة، عبر دعم هؤلاء الساسة وتركيزها على مصالحها الضيقة فقط، وفي حالات معينة تدخلها المباشر لفرض أنظمة أو نماذج حكم غير صالحة، أو التآمر لزعزعة استقرار بعض الدول وتغذية الحروب والنزاعات فيها.

إن أفضل وسيلة لمواجهة قضية اللجوء واللاجئين، هو حلها من المنبع، عبر العمل على مساعدة سكان دول الجنوب على البقاء في مناطقهم وسد الحاجة التي تضطرهم للانتقال إلى مناطق أخرى. ويتمثل ذلك في تقديم المساعدة الاقتصادية المناسبة وتشجيع التنمية المستدامة، وتطوير سياسات تحافظ على الاستقرار والأمن، ودعم إقامة أنظمة حكم رشيدة ومتصالحة مع شعوبها. للأسف فإن سجل الحكومات الغربية في هذا المجال لا يبدو مشجعا.

اقرأ للكاتب أيضا: خيارات الحرب والسلام في المنطقة

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.